بقلم/ الكاتب الباحث السوري معتز الخطيب
الحديث الأمريكي عن “تجديد الخطاب الديني”، و”تغيير مناهج التعليم الديني”، المتزامن مع الاحتلال العسكري لأفغانستان والعراق، الذي اتخذ عنوان “الحرب الصليبية” أعاد من جديد جدل “التجديد” مصطلحًا ومفهومًا ومشروعًا، لنشهد سيلاً من الكتابات الصحفية1، والندوات والمؤتمرات حول “تجديد الخطاب الديني” 2 وليشترك فيها كل الاتجاهات الفكرية؛ ما أدى – بالمقابل – إلى استعادة تعبير “الإسلام الأمريكي” لسيد قطب.
فنحن إزاء ظاهرة فريدة تاريخيًّا؛ إذ تحول سؤال التجديد الديني من مطلب داخلي تجسد على يد “الإصلاحية الإسلامية” من الاصطدام بالاستعمار، وعلى أساس الاشتباك مع العصر على قاعدة الإحساس بحركة التاريخ، ووعيًا بالفجوات الماثلة في المعرفة الدينية، تحول إلى “مطلب” للاستعمار الجديد ليغدو خطاب التجديد إرغامًا أيديولوجيًّا بعد 11 سبتمبر، يشكل “الإرهاب” وحسابات الأمن القومي الأمريكي زاوية مقاربته. هذا التحول المثير يفتح الجدل واسعًا حول أسئلة متعددة يمكن أن تثار أيضًا بخصوص تحول الديمقراطية إلى إرغام خارجي أيضًا.
الإرهاب.. والخطاب الديني
شكّل حدث 11 سبتمبر -بوصفه “إرهابًا” ولّد ما سُمي “الحرب على الإرهاب”- منعطفًا أساسيا وتحوّلا جذريّا لنوعيّة الخطاب والممارسة في السياسة الخارجيّة الأمريكيّة، والأخطر من ذلك أن هذا التحدّي قد أتى من كيان غير معترف به في كل من القاموسين: السياسي والدبلوماسي على الصعيد العالمي. ومقاربة السلوك الأمريكي في حربه المعلنة من منظور ديني يبدو مريحًا؛ إذ يمكن تفسير الممارسات الأمريكية على أنها “حرب على الإسلام” وهو ما مال إليه الكثيرون، خصوصًا من التيارات المتوافقة أو المتعاطفة مع توجهات “القاعدة”. غير أن هذه الممارسة المتشعبة والمربكة أحيانًا في وضعها ضمن إطار تفسيري كلي يمكن مقاربتها من زاوية بالغة الأهمية وهي زاوية المفاهيم لمحاولة الإمساك بالرؤية الموجِّهة لهذه السياسات وتقلباتها في مراحلها المتعاقبة منذ الحدث وحتى الآن.
إن النظر إلى “الحرب على الإرهاب” وفضاءاتها المتعددة من العسكري (الاستعمار)، والسياسي (تغيير الأنظمة ونشر الديمقراطية)، إلى الديني (المحافظون الجدد يطالبون بالتجديد الإسلامي)، والثقافي (تغيير المناهج ومفرداته): يفرض التعامل معها برؤية مركبة لا يكفي فيها النظر في حدود “الأمن القومي الأمريكي” ومتطلباته فقط، بل لا بد -أيضًا- من استعادة عقيدة “التهديد الإسلامي” الكامنة مسبقًا في مخيلة الرأي العام الأمريكي والغربي والمتشخصة في أحداث سبتمبر وخطاب القاعدة، وفي تهديد وصول الحركات الإسلامية إلى السلطة، وكذلك حضور حلم الإمبراطورية الأمريكية “المزدوج المقاصد في الشرق الأوسط: يبسط السيطرة على أرضه (باعتبارها قلب العالم من بداية التاريخ وحتى حاضره) ويمد يده إلى مكامن البترول تحتها (باعتبارها محرك التقدم المضمون حتى هذه اللحظة)” 3. وحتى حينما تحولت “الحرب على الإرهاب” من نيويورك إلى كابول، ثم من كابول إلى بغداد، “كانت هناك أحوال إنسانية، وصراعات سياسية، ومطالب إمبراطورية، وضرورات بترولية، ولوازم انتخابية”4 تقف وراء السياسة الأمريكية وحربها.
ومن ضمن هذه الرؤية المركبة تبدو الولايات المتحدة -ولا سيما “المحافظين الجدد”- معنية بالموضوع الأيديولوجي؛ تغييراً لمناهج تعليم، أو حضًّا على تأويل أشد عصرية للدين في البلدان الإسلامية، أو نشراً وتعميماً لمنتوج أمريكا الثقافي، فضلا عن “عقيدة” أمن إسرائيل التي تشكل ثابتة من ثوابت السياسة الأمريكية بغض النظر عن الإدارة الحاكمة في البيت الأبيض5.
وعلى هذا فـ”الحرب على الإرهاب” -بمفهومه الواسع وغير “التقليدي”6– اتسع ليشمل “حرب الأفكار”7 بناء على التشخيص الأمريكي للعنف والإرهاب “الإسلامي” وأسباب توليده، ومن ثم وسائل مكافحته التي تنوعت من “تجديد الخطاب الديني” والضغط على بعض المؤسسات الدينية (كالأزهر) إلى تغيير المناهج وإقامة المحطات الإعلامية لنشر خطابها مباشرة8.
فمشكلة الإرهاب إذن -وفق الرؤية الأمريكية- داخلية بنيوية، وهي متعددة الأسباب: سياسية، واقتصادية، وثقافية؛ وهذا ما يجعل منها بيئة خصبة “لتربية المتطرفين والإرهابيين”؛ ولذلك فمحاربة الإرهاب ستكون على هذه المستويات جميعًا بالإصلاح السياسي والتعليمي والاقتصادي9. وهنا يأتي الحديث عن الديمقراطية، والحرية، والإصلاح الديني والتعليمي10 لبناء ثقافة تعلم التسامح وتتقبل الآخر، وتنهي حالة الكراهية والتطرف؛ “فالعالم الديمقراطي هو عالم مسالم أكثر”.
ولأن “الإرهابيين” يستهدفون “القضاء على الطموح إلى الحرية والسلام”.. “يجب أن تشن هذه الحرب بصورة مشددة أكثر في العالم الإسلامي بالذات”. وهذا كله يأتي في إطار “مصلحة ذاتية” لأمريكا في تحقيق ذلك؛ وهو ما تؤكده “إستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة”11.
الشريك المفقود.. وحرب الأفكار
ولكون الولايات المتحدة لم تجد الشريك المطلوب فيما بدا، ولكونها غير قادرة على حل الإشكاليات التي توتر العلاقات بينها وبين الإسلاميين (خصوصًا دعمها غير المشروط لإسرائيل، والعنف والكراهية لها)؛ فقد قررت حلها عن طريق ما أسمته بالإصلاح التعليمي والديني لإعادة صياغة المفاهيم التي تغذي “الإرهاب” بما يتوافق مع مصالحها، وبما يحقق لها الأمن، وبما يستجيب مع عملية الإصلاح السياسي المفترض، والمتعثر بفضل الثقافة الدينية السائدة (وخصوصًا “الجهاد”) التي تغذي بذور الكراهية بحسب رؤيتها، وهي ما سبق وصفها بـ”حرب الأفكار” أو “حرب المبادئ”12. فـ”التطرف الإسلامي” -لو مشينا مع التصريحات السياسية، بل مع قول بيرل وفروم تحديدًا- “ليس ديانة بل هو أيديولوجية تجب مواجهتها من خلال حرب مختلفة للتعامل مع القيم والمبادئ التي ينادي بها”.
ومع “حرب المبادئ أو الأفكار” يبدو الهدف أوسع من مجرد “الحرب على الإرهاب”، ويبدو أن الرؤية الأمريكية مرت بخطوات تدريجية حتى تبلورت في شكلها الحالي، فابتدأت من 20 سبتمبر 2001 -على لسان بوش- بالدعوة إلى استنقاذ الإسلام من خاطفيه المتطرفين، وانتهت -في مبادرة باول- إلى الإصلاح التعليمي (بالإضافة للسياسي والاقتصادي) الذي ترافق مع الحديث عن الإصلاح الديني، مرورًا بالحديث عن “الإسلام المعتدل” (استبعاد “الجهاد”، العلاقة مع الغرب، الشريك الإسلامي، وجملة المطالب: حقوق المرأة في أولها).
الإرهاب الإسلامي.. وتحديث الإسلام!
والواقع أن المدخل كان “مكافحة الإرهاب” بمفهومه “غير التقليدي” الذي جرّ إلى معضلة “إصلاح العالم العربي والإسلامي”13 بما يتوافق مع الأمن القومي، والمصالح الأمريكية، لكن تعقيدات التشخيص وإشكاليات العلاج الأمريكيين، وما يحيط بنشر الديمقراطية من إشكالات سياسية ودينية حوّل الحرب إلى مجال الأفكار والمبادئ؛ ليصبح الهدف أوسع من مجرد “محاربة الإرهاب”؛ فهو “كفاح من أجل الحداثة والعلمانية والتعددية والديمقراطية والتنمية الاقتصادية الحقيقية” 14.
وهذا يعيدنا إلى تشخيص “فوكوياما” المبكر للإرهاب؛ فقد اعتبر أحداث سبتمبر “حركة ارتجاعية عنيفة يائسة ضد العالم الحديث”؛ فهو “صراع ضد الفاشية الإسلامية؛ أي العقيدة الأصولية غير المتسامحة التي تقف ضد الحداثة” والعلمانية، وعليه فإن الحرب “أوسع بكثير” من “الحرب على الإرهاب”. “إنها الأصولية الإسلامية التي تشكل الخلفية لحس أوسع من المظالم وأعمق بكثير، وأكثر انفصالا عن الحقيقة من أي مكان آخر”. و”مسيرة التاريخ العريضة” ستتقدم -وفق رؤيته- بناء على نتيجة الحرب العسكرية (في أفغانستان والعراق)، و”التطور الثاني والأهم ينبغي أن يأتي من داخل الإسلام نفسه. فعلى المجتمع الإسلامي أن يقرر ما إذا كان يريد أن يصل إلى وضع سلمي مع الحداثة، وخاصة فيما يتعلق بالمبدأ الأساسي حول الدولة العلمانية والتسامح الديني”15.
إذن فالإصلاح الديني في المنظور الأمريكي يتلخص في “تحديث الإسلام” لحل إشكالية “الإسلامفوبيا” والإرهاب الإسلامي، وتحقيق الإصلاح السياسي وفق معادلة جديدة تخرج عن دعم الأنظمة الاستبدادية مقابل “الاستقرار” وتأمين المصالح؛ لأن هذه الأنظمة لم تعد قادرة على منح هذا “الاستقرار”. وهنا تتم قراءة تحولات المشهد السياسي، والانتخابات الديمقراطية التي أدت إلى صعود أحزاب إسلامية “معتدلة” في عدد من دول الشرق الأوسط (أبرزها تركيا، والمغرب والبحرين، والاحتفاء بإصلاحيي إيران) التي ورد الثناء عليها وعلى ديمقراطياتها في خطابات بوش وباول وهاس.
ومشروع الإصلاح الكلي يتأسس على الإصلاح الاقتصادي، والسياسي، والتعليمي، وهذه الإصلاحات ذات صلة وثيقة ببعضها، ويمكن إدراك أوجه الربط بينها من خلال الخطابات الأمريكية المذكورة التي تسعى للتدليل على رؤيتها باقتباسات “عربية” لكسب “مشروعية” ومصداقية لدى المخاطب العربي والمسلم16. ويمكن إيجاز هذا الترابط في الإستراتيجية الأمريكية من خلال نص مهم لفريد زكريا (رئيس تحرير “نيوزويك” الأمريكية) يقول فيه: “يجب على الولايات المتحدة في البداية أن تتعرف إلى أهدافها الحقيقية. نحن لا نسعى إلى الديمقراطية في الشرق الأوسط، ليس الآن على الأقل. نحن نسعى أولاً لما يمكن تسميته بالشروط المسبقة للديمقراطية، أو ما دعوته أنا بـ”الليبرالية الدستورية”، سيادة القانون، الحقوق الفردية، الملكية الخاصة، المحاكم المستقلة، الفصل بين الكنيسة والدولة. وفي العالم الغربي اندمجت هاتان الفكرتان معًا -وعنها نتجت الديمقراطية الليبرالية- لكنهما تمايزتا تاريخيًّا وتحليليًّا” 17.
وضمن “الشروط المسبقة” هذه تندرج محاور التحرك الأمريكي في المنطقة للإصلاح بممارسة الضغوط وقائمة المطالب بصيغة “الشراكة”. لكن “الممر الأكثر ديمومة للإصلاح سيكون اقتصاديًّا”؛ فطلب الغنى، فالإصلاحات الاقتصادية تعني البداية لسيادة القانون، والانفتاح على العالم، وتشكل طبقة من رجال الأعمال “ستكون هي مفتاح الديمقراطية الليبرالية”؛ لأن لهم مصلحة في الانفتاح والاستقرار، والحداثة، ومن ثم ستكون قوة التغيير الحقيقي في الشرق الأوسط، بحسب “زكريا”.
في هذا السياق نفهم معنى “اقتراح بوش إقامة منطقة تجارة حرة مع الشرق الأوسط” ضمن “الحرب على الإرهاب”، وعملية الإصلاح القضائي التي رعتها أمريكا في البحرين (9/2003م)، وعملية تحديث الإسلام ليتقبل العلمانية والليبرالية والقيم “الغربية – العالمية” بتعبير ولفويتز الملحّ، والمجادلة بأن الإسلام قادر على تقبل ذلك18، وتغيير المناهج بما يتوافق مع الليبرالية والعلمانية (القبول بالآخر، وحذف الجهاد، وثقافة التطبيع، وثقافة حقوق الإنسان)19 وفق المنظور الأمريكي.
وبتعبير “إلينا رومانسكي”: “لا توجد فسحة من الآن فصاعدًا للكراهية وعدم التسامح والتحريض، ونحن نحاول أن نعيش معًا، وأي منهاج دراسي لا يسير في هذا الاتجاه يجب تغييره” 20، “فالديمقراطيات المزدهرة تتطلب تقاليد المساءلة وليس الحفظ عن ظهر قلب”21.
الإسلام الليبرالي..!
غير أن مكانة مصر في العالم العربي والإسلامي تجعل منها الساحة الأهم لعملية التحديث هذه؛ بوصفها “الروح الثقافية للعالم العربي”، بتعبير فريد زكريا الذي يقول: “إذا ما كتب لها أن تتقدم اقتصاديًّا وسياسيًّا، فإنها ستُبرز -بقوة تتفوق على أي خطاب أو بلاغة- أن الإسلام يتماشى مع الحداثة، وأن العرب يستطيعون النجاح في عالم اليوم”22، وهذا يلقي إضاءات (تفسيرية) على حمّى الحديث عن “تجديد الخطاب الديني” والضغوط الأمريكية على مؤسسة الأزهر ممثلة بشيخها لإصدار فتاوى “معتدلة” تتوافق مع المصلحة الأمريكية (مواقفه من وصف “الصليبية”، وفتوى الجهاد ضد الأمريكيين، وشرعية مجلس الحكم الانتقالي…).
هذا التحديث الذي شكّل الأمني والسياسي والمصلحي مدخلا له، من شأنه أن يعيد صياغة العلاقة مع الغرب بناء على رؤية أمريكية جديدة، تنبذ الكراهية -لها خصوصًا- وتجتث جذور الإرهاب الإسلامي من مصدره “الحقيقي”، ويشكل النموذج التركي مثالا يحتذى، يتم الإلحاح عليه في خطابات المسئولين (بوش، باول، هاس، ولفويتز)، بوصفه يلبي “طموح العالم الإسلامي”، ويتبنى -من خلال حزب العدالة والتنمية الإسلامي- “رؤية أتاتورك التي تدعو إلى قبول العالم القديم للعالم الجديد”. وبهذا “تعطي تركيا صورة مقنعة بعدم ضرورة التضحية بالمعتقدات الدينية لصالح مؤسسات ديمقراطية علمانية حديثة” بتعبير ولفويتز.
هذه الصيغة من الإسلام الحداثي في إطار الأمن القومي والمصلحة الأمريكية تم التعبير عنها بصياغات مختلفة، تارة باسم “الإسلام الليبرالي”، وأخرى باسم “العلمانية المؤمنة” أو “الإسلام العلماني”، أو “الإسلام المعتدل”23. وفي المقابل استعاد بعض الكتاب في الأوساط السلفية والجهادية تعبير سيد قطب “الإسلام الأمريكي”24 لوصف هذا التوجه الأمريكي نحو الإسلام، وإن كان في تصورهم له كثير من الخلط والزج بأمور وقضايا فقهية خلافية25!.
طالع أوراق الملف:
-
مقدمة
-
الإسلام .. ومنعطف التجديد
-
المشروع الأمريكي: تحديث الإسلام!
-
العنف.. والإصلاح الديني
-
التجديد الإسلامي وخطاب ما بعد الهوية