Connect with us

Published

on

 

قول الصحفي الفرنسي جان ايف يونت: “لقد سمعت الكثير عن الحرب، وقرأت كثيرًا عن غدر الفاشيين الألمان، ولكن الأرمن فاقوا ذلك بقتلهم الأبرياء والأطفال في عمر الخامسة والسادسة”.

ويقول الكاتب والصحفي الأرميني المقيم حاليًا في لبنان “داود خيريان”، والذي يروي بفخر في كتابه المعنون “في سبيل الصليب” مذبحة خوجالي، فيقول: ” في برد الصبح القارس، كان يجب علينا أن نقيم جسرًا من الموتى للعبور من المستنقع الموجود بالقرب من منطقة “باشيولاق”. لم أرد السير فوق جثث الموتى. فرأى ذلك العقيد أوانيان، فأشار لي “لا تخف”. فوضعتُ قدمي في صدر جثة طفلة في التاسعة أو الحادي عشرة من عمرها، وبدأت السير. لقد غرقت قدماي وسروالي في الدم، لقد عبرتُ بهذه الطريقة فوق 1200 جثة”.

وأما صحيفة تايمز اللندنية، فقد عنونت عددها الصادر يوم 4 مارس/ أذار 1992 كالتالي: “معظم القتلى ممثل بجثثهم، وطفلة صغيرة لم يبقى سوى رأسها”.

وجريدة “ازفيزستيا” الروسية كان عنوانها في ذلك اليوم الدامي: “الكاميرات تنقل لنا صور أطفال قُطعت آذانهم. وامرأة لم يبق سوى نصف وجهها. وسلخ فروة رأس رجل”.

وكذلك صحيفة “لي موند” الفرنسية: “الصحفيون الأجانب الموجودون بمحافظة أغدام يشاهدون ثلاثة جثث مسلوخة الرأس، ومنزوعة الأظافر بين جثث النساء الأطفال المقتولة في خوجالى . وهذه ليست مجرد حملة دعائية من الأذربيجانيين، بل هي الحقيقة”.

ومجلة “فالير أكتويل” الفرنسية: “المجموعات المسلحة الأرمينية في هذه المنطقة ذات الحكم الذاتي تمتلك معدات حديثة ، بما فيها المروحيات بجانب القادمين من الشرق الأوسط. وهناك معسكرات حربية ومخازن سلاح بسوريا ولبنان تابعة للتنظيم الإرهابي الأرميني “أصالا”.. الأرمن يقضون على الأذربيجانيين من خلال الإبادة الجماعية التي قاموا بها في أكثر من مائة قرية مسلمة”.

وقام بتجميع هذه التصريحات الصحفي المصري د. أحمد سامي العايدي، ونشرت على صفحات وكالة الأنباء الأذرية، وذلك بمناسبة حلول الذكرى السنوية لمجزرة خوجالي والتي وقعت في السادس والعشرين من شهر فبراير عام 1992 للميلاد، عمدت القوات المسلحة لجمهورية أرمينيا إلى ذبح وقتل سكان مدينة خوجالي الواقعة في إقليم ناغورني قارباغ الأذربيجاني وذلك باستخدام شتى أنواع الأسلحة.

في ذلك اليوم اقتحمت الوحدات الأرمينية المسلحة مدينة خوجالي التي كان يقطنها 7 آلاف نسمة من المسلمين، وقتلت 613 من المدنيين بينهم 63 طفلا و106 امرأة و70 شيخا، وفقدت حوالي 70 عائلة بالكامل، وجرح 487 مدنياً وخطف 150 شخصا.

وإذ تأتي مجزرة خوجالي 1992 ضمن سلسلة من المجازر االمرتكبة في حق الأذريين من قبل الأرمن خلال حرب ناجورنو قرة باغ من فبراير 1988 إلى مايو 1994، فإن جذورها تعود إلى عام 1923 عندما أعطت الحكومة الروسية منطقة ناغورنو-كرباخ رسمياً لأذربيجان(أذربيجان وارمينيا كانتا تتبعان للاتحدا السوفياتي)، وعند تفتت العقد السوفيتي واستقلال جمهورية أذربيجان، اندلعت الحروب بين كل من أذربيجان وجمهورية أرمينيا، بسبب إصرار كل منهما على ضم تلك البقعة إلى أراضيه.

وفي بداية هذا الأسبوع، أعلن فريق أتلتيكو مدريد الإسباني أن لاعبيه سيرتدون شارات سوداء خلال مواجهة الفريق لكل من أوساسونا وريال مدريد في الجولتين القادمتين من الدوري الإسباني، وذلك لإحياء ذكرى مجزرة خوجالي. و قال بيان للنادي: “نظرا للعلاقات الوطيدة بين أتلتيكو وشعب أذربيجان لرعايته لفريق أتليتكو مدريد نرغب في أن نتشارك مع شعبها الآلام في ذكرى مأساة خوجالي”.

أمريكا

نيجيريا : جماعة “بوكو حرام”.. نشأتها ومبادئها وأعمالها

Published

on

د. أحمد مرتضى(*)

 

نتيجة انحسار سيطرة الدولة الإسلامية عن العالم الإسلامي منذ القرن الرابع عشر الهجري – بدايات القرن العشرين الميلادي -؛ كثُر انبثاق الجماعات الإسلامية، وأصبح ذلك من إرهاصات عصر العولمة في القرن الحادي والعشرين الميلادي.

والهدف من هذا البحث هو القراءة الواعية لحركة «جماعة أهل السنّة للدعوة والجهاد»، المشهورة بـ «حركة بوكو حرام»، وذلك من حيث نشأتها، وتبلورها، والنظر في مبادئها، والأدلة التي استندت إليها، وهذا يقتضي التعمق في أدبياتها، والتأمل الدقيق للأقوال الصادرة من علماء الحركة، من أجل تكوين رؤية واضحة سليمة الدعائم.

ويعتمد هذا البحث على الأشرطة التي بثّ قادة الحركة فيها دعوتهم، وشرحوا خفاياها وزواياها، ومجموع هذه المفردات إذا صيغت في منظومة متحدة السياق تفيد في تحقيق هذه القراءة؛ إذ بهذه الطريقة فقط نستطيع أن نقوّم هذه الجماعة تقويماً مناسباً لمقتضيات بروزها على الصعيد الوطني، وصمود أعضائها على آراءهم.

ويدور البحث حول سبعة محاور وخاتمة، على النحو الآتي:

 

أولاً: المفهوم الحقيقي وتداعيات النشوء.

ثانياً: المواجهات المسلحة.

ثالثاً: مبادئ الحركة.

رابعاً: مناهج الدعوة وآلياتها في الحركة.

خامساً: علاقة «بوكو حرام» بتنظيم القاعدة.

سادساً: التمويل في حركة «بوكو حرام».

سابعاً: موقف العلماء والعامة من الحركة وأفكارها.

ثم الخاتمة.

 

أولاً: المفهوم الحقيقي وتداعيات النشوء:

الاسم الحقيقي لهذه الحركة هو «جماعة أهل السنّة للدعوة والجهاد»، وهو الاسم الذي يردّدونه ولا يرضون لهم اسماً سواه، وأطلق عليهم الناس، وبخاصة الإعلاميون، اسم «جماعة بوكو حرام»، وهذه التسمية قد شجبها أعضاء الحركة، ويفضّلون التسمية التي اختاروها لأنفسهم.

وأما مفهوم «بوكو حرام» المشاعة، وهي كلمة هوساوية، فلم يكن يعرفه سوى أهل الهوسا، وهي كلمة مركبة تركيباً مزجياً من لغتي الهوسا واللغة العربية، وقد كان الهوساويون يستعملون كلمة «بوكو» ويعنون بها «نظام التعليم الغربي»، وإذا أضيفت إليها كلمة «حرام» أصبح المعنى: نظام التعليم الغربي حرام، وبالأحرى أن تُفسر الكلمة بمحتواها الدلالي، وليس وِفق الترجمة الحرفية، وعلى ذلك يمكن أن تكون الترجمة الصحيحة هي: «اتباع النظام التربوي على السياق الغربي حرام».

ولم يشتهر لقب «بوكو حرام» اشتهاراً على مدى أوسع إلا بعد الاشتباكات الأخيرة في شعبان من السنة 1430هـ / يوليو – أغسطس 2009م، وإنما اشتهر المنتمون إلى «محمد يوسف» في ولايتي «برنو» و «يَوبي» بـ «اليوسفيّين»، نسبة إلى اسمه، ولا يرون غضاضة في إظهار هذه التسمية اقتناعاً منهم بها في تلك الفترة.

وأما «بوكو حرام»؛ فهي تسمية مشتقة من الفكرة التي يكثرون ذكرها مراراً لنصيحة المسلمين، وبخاصة الآباء، وطلبة المعاهد والجامعات، وسائر المعتنين بالتربية، فلُـقّبوا بها من باب التلقيب بما أكثر المرء من ذكره.

للناس من الكُتّاب والصحافيين، حتى العوام، تفسيرات عدة في تحديد المقصد الحقيقي لـ «بوكو حرام»، ولعل ذلك ناشئ عن عدم تداول أشرطة علماء «بوكو حرام» على نطاق واسع بين الأوساط العلمية وجمهور الناس، ولكن خير من يُعرب عن مفهوم الحركة هو زعيمها «محمد يوسف»، فقد كانت له خطب ومحاضرات خاصة بتفسير مقصدهم من تحريم دراسة «بوكو».

بعد إلقاء زعيم الحركة «محمد يوسف» محاضرة في ولاية «يُوبي Yobe»، أجاب عن سؤالات وُجهت إليه، كان من ضمنها سؤال عن مقصوده بتحريم «بوكو»، فقال: «يعنون بذلك الدراسة في المدراس التي أسّسها المنصِّرون، ويشمل هذا: المناهج الدراسية المقرّرة منذ الابتدائية، مروراً بالثانوية والمعاهد، إلى الخدمة الوطنية، حتى العمل».

 

خلفية لا بد منها:

قبل 2002م لم يكن هناك فكرة لحركة «بوكو حرام»، وإنما تمّ تأسيسها بعد حادثة 11 من سبتمبر، والأستاذ محمد يوسف من مواليد قرية نائية في منطقة يُونوساري من بلدة «غَشُوَ Gashuwa» من ولاية «يُوبيYobe » حالياً في شمال نيجيريا (1)، قبل اثنتين وثلاثين سنة من تأسيس الحركة.

في منتصف الثمانينيات ظهرت حركة «الإخوان المسلمين Yan Brothers» على المسرح العلني بزعامة إبراهيم الزكزكي، وقد اكتسبت حركته شباباً كثيرين، وقد انتظم «محمد يوسف» في هذه الحركة، المعروفة باعتمادها أسلوب الحماسة، وإثارة العواطف ضد الدولة باسم الدين.

وكان اهتداؤه إلى جماعة أهل السنّة والجماعة متأخراً، و «أبو يوسف» – كبعض الشباب المتحمّس- لم يلتحق بالدراسة النظامية، وإنما التحق بالفصول الليلية لمحو الأمية بمعهد الكانمي، ولكنه انفصل عنها بعد الفترة الثانية، وكانت مدة دراسته فيها سنة كاملة، إلا أنه أتقن القرآن اتقاناً في المدرسة القرآنية التي يتولاها والده، وقد حضر دروس بعض رموز السنّة في نيجيريا، وبعد الاهتداء إلى العلم عكف على الكتب الدينية باجتهاد شخصي.

وقبل 1994م بقليل ظهر التشيُّع والميل إلى العمالة للجمهورية الإيرانية في تصرفات زعيم جماعة الإخوان المسلمين «إبراهيم الزكزكي» وبعض المقربين منه، فتفككت جماعة «الإخوان» إلى كتلات، استمر بعضهم مع الزعيم الشيعي، وتوجه بعض آخر نحو السلفية، بينما أسس آخرون جناحاً جديداً على خطى الإخوان باسم «جماعة التجديد الإسلامي»، ورأوا الحفاظ على منهج «الإخوان» السابق بفارق جذري هو قطع الصلة بالجناح الشيعي بتاتاً، وبقي أمير كلّ بلد مع تابعيه؛ منتمياً إلى أحد الأجنحة الثلاثة؛ إما إلى الحركة الأولى بتوجهها الشيعي، وإما إلى الحركة الثانية برأيها التجديدي، أو الانتماء إلى أهل السنّة والجماعة.

 

تأسيس الحركة:

وفي غضون 1999م خضعت جمهورية نيجيريا – للمرة الثالثة – للنظام الديمقراطي، ولكن حاكم زنفرا الحاج أحمد ثاني يَرِيْمَابَكُورَا وجد في دستور الجمهورية النيجيرية مسوّغاً لإعلان تطبيق الشريعة في ولايته 2001م، ودعا سائر حكام الولايات الشمالية إلى ذلك، فاستجابت بعض الولايات للدعوة، بعد إلحاح شديد من قِبل رعايا هذه الولايات، فأعلنت حوالي اثنتا عشرة ولاية تطبيق الشريعة الإسلامية في حدود تخومها.

لا ريب أن الأستاذ محمد يوسف قد تأثر بانشقاق «جماعة الإخوان»، فتمكّن بصفته أحد رموز الإخوان من قيادة الفرقة التي انشقت معه، واستمر في تعليمهم وتوجيههم، واقترب من «جماعة إزالة البدعة وإقامة السنّة» جداً، ثم أصبح صدراً في ولايتي «يُوبي» و «برنو»، وبقي حيناً من الدهر على ذلك.

وبدأت أفكاره تتطور، ويُدخل تعديلات يراها تقدّمية في مجال الدعوة، لحدٍّ ملفت للنظر، ويرجع ذلك – كما قال الأستاذ محمد يوسف نفسه – أنه بعد انضمامه إلى جماعة الإزالة، كان هناك ثلاثة مساجد يتشاركون في إدارتها، فحصل تنازع في الإدارة بين أصحابه وبين جماعة الإزالة، وانتهى التنازع أخيراً بانحياز طلابه إلى أحد المساجد، وتركوا المسجدين الآخرين لجماعة الإزالة (2)، وهذه نقطة البداية، واستمر مع جماعته حتى استقل بتأسيس حركة «جماعة أهل السنّة للدعوة والجهاد» حوالي عام 2002م.

 

ثانياً: المواجهات المسلحة:

ترجع بداية المواجهات المسلحة إلى انبعاث جماعة – ممن تأثروا بدعوة «محمد يوسف» – للاشتباك مع رجال البوليس عام 2003م، بدأت الأحداث حين اعتزل بعضهم زاهدين عن الدنيا منعزلين عن الناس في قرية «كَنَمَّ Kanamma» وفي بلدة «غَيْدَمْ Gaidam» بالقرب من جمهورية النيجر، فاشتُبه في تصرفاتهم، وأُبلغت عنهم الشرطة، فتحقّقت الشرطة منهم بلا جدوى، ولكن أُبلغ عنهم للمرة الثانية بسبب ما يقومون به من أعمال مشبوهة، وفي هذه المرة هجم عليهم رجال البوليس والجند، وتركوا منهم قتلى وجرحى.

شوهد رجال البوليس يأتون بأعضاء الحركة حتى بعض العرجى منهم، فيطالبونهم بالاضطجاع على بطونهم، ثم يطلقون على كلّ فرد منهم رصاصتين أو ثلاثة

وفي حملةٍ مقابلة؛ خرج جماعة برئاسة الشيخ «بَابَ Baba» بغضبة عارمة للأخذ بالثأر، استأصلوا فيها رجال الشرطة الذين قابلوهم في الطريق، وقطعوا مسافة طويلة مشياً على الأقدام حتى وصلوا «دماتُرُو» عاصمة ولاية «يوبي».

وأهل «كنّم» متشدّدون لحدّ أنهم يكفّرون حتى محمد يوسف حسبما يقول هو نفسه (3) ، ولم ينشرح صدره بخروجهم، للعلاقة المعروفة بينه وبينهم، وقد بلغه خبر الخروج وهو في المملكة العربية السعودية، ومع ذلك انهالت عليه حكومة نيجيريا بالتهديد والضغوط، فبقي هناك قرابة ثلاثة أشهر، حاول بعدها الرجوع فأقنعه بعض الناس ليبقى إلى وقت الحج، وكان الباعث الحقيقي لزيارته في رمضان عام 2003م هو العلاج في مستشفيات المملكة، وعلى أية حال؛ فذلك الخروج يطلق عليه أعضاء الحركة في أدبياتهم بـ «جهاد كَنَمَّ JihadinKanemma».

ومن ثم استمر «محمد يوسف» يواجه التحديات من قِبل حكومة ولاية «برنو»، والحكومة الفيدرالية بالمراقبة والتفتيش، وكان بعض الدعاة يتهمونه بالغلو والتطرف، في حين أن بعضاً آخر من رجال الدعوة ينصحونه بأن يستبدل الضجيج بالهدوء ونشر العلم.

على الرغم من ذلك؛ فقد اتخذ «أبو يوسف» مدينة «برنو» معقلاً لدعوته، استمر فيه ناشطاً في تحريض الشباب على الجهاد ضد ظلم الحكام، وتحذير الناس من الدراسة على نمط «بوكو»، وضد كل ما يتّسم بـ «الحداثة»، ولم تفتر عزيمة «محمد يوسف» في هذه الفترة عن التجوال في كلّ مدن شمال نيجيريا من «برنو» إلى «صكتو» لإلقاء محاضراته في الدعوة والاستعداد للجهاد.

وقد وفّق لحشد مجموعة من الشباب المتحمّس لإقامة الدولة الإسلامية، جاؤوا إليه مبايعين من الأماكن التي انتشرت فيها دعوته، وخصوصاً من ولايات الشمال الشرقية الخمس، وهي: «غومبي» و «أدماوا»، بالإضافة إلى «برنو» و «يوبي» و «بوثي».

وانتشرت دعوة الحركة أيضاً في ولايات الشمال الغربي، وهي: «كانو»، و «جيغاوا»، و «كتسينا»، و «صكتو»، و «كبي»، وتجاوب معه فيها عدد قليل، وإذا هاجر الناس إلى «برنو» يتجمّعون في المركز، وفي حارة «قَوزَارِي Gwazari» على طريق الذهاب إلى حارة «رُوَنْزَافِي RuwanZafi» في «ميدغري».

 

مجزرة شعبان 1430هـ / يوليو 2009م:

وفي بداية سنة 2009م صدر قرار من الحكومة الفيدرالية باستعمال القلنسوة الواقية للرأس، وقد تزامن هذا مع تحايل قام به بعض السارقين لاغتصاب أموال طائلة من والد حاكم ولاية «برنو» – على ما يقال -، فاشتط الحاكم غضباً وأمر رجال البوليس بتنفيذ قرار القلنسوة الواقية في أطراف ولاية «برنو»، وسمّى مهمتهم الخاصة بـ Operation Flush Out ، وقد نفذوا تلك المهمة بتشدد بالغ، تأذى منها شعب ولاية «برنو».

وفي هذه الأثناء خرج بعض أتباع «محمد يوسف» لحفر قبر دون القلنسوة الواقية، فاستقبلهم رجال المهمة الخاصة بعنجهية واحتقار، ولما خرج سائر المشيعين للجنازة شاهدوا الوضع المهين لإخوانهم، فحصل اشتباك عنيف هناك، أسفر عن جرح قرابة ثمانية عشر رجلاً من عناصر الحركة، لم تقبلهم المستشفيات إلا بعد عناء، مما أدى إلى وفاة أربعة منهم بعدُ.

غضب «محمد يوسف» من هذه العملية، وألقى خطابه المشهور، الذي أسماه «الرسالة المفتوحة إلى رجال الحكومة الفيدرالية»، هدّد فيه الدولة، وحدّد لها أربعين يوماً للبدء في إصلاح العلاقة بينها وبين حركته، وإلا سيبدأ عملية جهاد على مدى أوسع لا يُوقِفه إلا الله! فمضت الأربعون يوماً بأيام قلائل، ولم تحرك الحركة ساكناً، غير أن القيادة قد أعدّت – فيما بدا للمحللين – تنظيماً واستراتيجية استعداداً لخوض الحرب.

ظل أعضاء الحركة إبّان الأزمة يترقبون صدور فتوى من قيادتهم تبيح لهم الانطلاق، وكانت تحركاتهم ومحاضراتهم وخطاباتهم في البلدان تنمّ عن الاستعداد للمواجهة، ولهذا تحرّك رجال الشرطة في ولاية «بوثي» وهاجموا تجمّعاً للحركة في مسجد لهم، فاندلعت المواجهة عندئذ، وتأزمت العلاقة بين الحكومة وهذه الجماعة في تلك الليلة من شهر شعبان من السنة 1430هـ الموافق ليوم الأحد 26 من يوليو 2009م.

وفي حركة مقابلة؛ اقتحم بعض عناصر الحركة المسلحين مقر الشرطة الرئيس بـ «دُوظَنْ تَنْشِنْ DutsenTenshin»، وبعض المباني الحكومية في ولاية «بوثي»، فلم تستسلم الشرطة، ودافعت مستميتة، فحصل نتيجة لذلك اشتباك عنيف بين قوات الأمن والمسلحين في تلك الآونة، وفي الصباح تطايرت شرارة المواجهات إلى «دَمَاتُرُو» عاصمة ولاية «يوبي»، وانتقل الاشتباك بحرارة في نصف النهار إلى ولاية «برنو»، فتحوّلت العاصمة «ميدغري» إلى أرض المعركة، حيث كان المركز العام للحركة، ومثوى رأسها، وكبار الدعاة إليها.

واستمرت الحرب لمدة خمسة أيام، من الأحد إلى الخميس، انتقلت عَدواها إلى كبرى ولايات شمال نيجيريا: «ميدغري» و «بوثي»، و «كنو»، واقتحمت قوات الأمن معاقل الحركة في «بوثي» و «برنو»، وحُوصر الذين ثاروا في قرية «وُدِلْ WUDIL» بـ «كنو»، وأدى كلّ ذلك إلى مقتل أكثر من سبعمائة شخص من بين رجال الحركة والشرطة والجند وغيرهم من الشعب، واضطر أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمائة من سكان المنطقة للنزوح عن مساكنهم بعد اندلاع القتال.

 

نهاية المجزرة ومقتل زعيم الحركة محمد يوسف:

وفي أثناء المعركة اقتحمت الشرطة والجند المسجد الذي يستخدمه الأستاذ محمد يوسف لدروسه ومحاضراته (المعروف بمسجد ابن تيمية)، والواقع في المكان المعروف بالسكة الحديدية Railway على شارع «أَبّغَنَرَمْ Abbaganaram»، وفجّروه تفجيراً بقذائف مدوية، صكّت الآذان، وارتعدت من أجلها الجدران، وكانت حصيلة القتلى في المسجد وخارجه قرابة مائة من عناصر حركة «بوكو حرام»(4) ، وشوهد رجال البوليس يأتون بأعضاء الحركة، حتى بعض الجرحى منهم، فيطالبونهم بالاضطجاع على بطونهم، ثم يطلقون على كل فرد منهم رصاصتين أو ثلاثة (5)، وتوقفت المجزرة آنذاك بمقتل «محمد يوسف» نفسه بعد إلقاء القبض عليه، وإجراء محاورة مع بعض الجنود وكبار الشرطة، كما شاهد الكل ذلك مرئياً، لمدة خمس دقائق (6)، ثم قتلوه مكتوف اليدين، ويقولون إنه طلب الصفح والعفو قبل مقتله (7)، ولا ندري لماذا! وبعد الحرب حفرت الدولة المقبرة الجماعية لدفن الجثث في «ميدغري»(8) .

وكان مقتل «محمد يوسف» محاطاً بغموض عظيم، وتفسيرات عديدة من قِبَل مصادر الدولة، فمن يتحمل مسؤولية قتله؟ ولماذا؟ وما يثير دهشة بعض المحللين أنه لماذا لم يخضع للمحكمة حتى تُعرف التفاصيل عنه بمنطقه ه) ؟!(9).

 

إعادة تشكيل المنظومة:

بعد مقتل «محمد يوسف» تحدث ناطق رسمي للحركة بأن مقتله لن يغيّر مجراهم، ولم يؤثر فيهم سلباً، بل حفّزهم على الاستماتة وتنفيذ مشاريعهم. ونقلت هيئة الإذاعة البريطانية بي.بي.سي في 16 أغسطس 2009م بياناً رسمياً أسفر عن تطوّر جديد للحركة، حيث تحدث فيه المدعو بـ «ثاني عمر»، وصف نفسه آنذاك بأنه «الزعيم بالنيابة»، ويعد بيانه هذا الأول من نوعه عقب تلك الاشتباكات الدموية، ذكر أن: «الجماعة ألحقت نفسها بالقاعدة، وأنها تنوي شنّ سلسلة من التفجيرات في شمال البلاد وجنوبها؛ ابتداء من أغسطس مما يجعل نيجيريا مستعصية على الحكم»(10) .

وفي نهاية شهر يونيو 2010م ظهر نائب «محمد يوسف» المعروف بـ «أبي بكر شيكَو» على صفحة الإنترنت، مقنِّعاً رأسه، ومدجّجاً بالبندقية أك 47، وظهوره هذا يشبه الرد على إشاعة مقتله ضمن مجموعة القتلى، ظهر يؤكد أنه بالرغم من مرور سنة كاملة على الهجوم عليهم فإنهم ما زالوا ملتزمين بمبادئ الحركة، وعلى وشك شنّ هجوم عنيف على الغرب الكافر ومتبعي أنظمتهم في نيجيريا (11)، ومن هنا أصبح الأستاذ أبو بكر شِيكَو هو زعيم الحركة، ويلقّبه أعضاء الحركة بـ «الإمام»، وقد استمر عناصر الحركة في النشاطات خفية بزعامته، ومساعدة نواب آخرين.

ويبدو أن الحركة في هذه الفترة عملت على تحقيق هدفين:

أولاهما: تحرير أعضاء الحركة الذين أُلقي القبض عليهم، وزُجّ بهم في السجون.

وثانيهما: الدفاع عن النفس، وفي سبيل الدفاع عن النفس ذكر «الإمام شيكَو» أن جماعته إنما تقاتل ضد ثلاثة أصناف من الناس، وهم: الشرطة والجنود المسلحون، والمسيحيون، ثم الوشاة بالحركة وأعضائها، وأما جمهور الناس فقد أكد أنهم لا يمسونهم بسوء، وقد قال الأستاذ محمد يوسف مثل ذلك في محاضرة ألقاها يوم الأحد 18 ربيع الأول 1430م.

وتتالت الأحداث بتفجيرات وإطلاق رصاصات هنا وهناك تستهدف أفراد الشرطة والجند أو مراكزهم، وكان لـ «مَيدغري» قسط كبير من الإغارة، وكذلك ولايتي «يوبي» و «بوثي»، وهكذا مرّ عام 1431هـ / 2010م في تهارج واضطرابات وخصوصاً في الولايات الثلاث المذكورة.

وقد كان عام 1432هـ / 2011م مليئاً بالأحداث المختلفة سياسية واجتماعية واقتصادية، خرج معظم النيجيريين لانتخابات إبرايل، فأصبح جونثان هو رئيس الجمهورية، وقد أحدث هذا خنقاً مؤلماً للكثير من الشعب المسلم، خصوصاً في الشمال.

وتزامنت هذه الزوبعة مع التطهير العرقي الحادث في ولاية جوس، حيث قامت مجزرة كبيرة، لقي فيها المسلمون ألواناً من انتهاك الأعراض والغصب والقتل الوحشي، عدة مرات، من أعظمها ما كان في شهر مايو، في أيام العيد، وهذا مما زاد الطين بلة، وأثار حفيظة المسلمين بمن فيهم «جماعة أهل السنّة للدعوة والجهاد»، فتوسعوا في الإغارات والتفجيرات ضد المسيحيين.

وقد ذكرت بعض التقارير أن أكثر من 550 شخصاً لقوا حتفهم في عام 2011م، في قرابة 115 هجوماً (12)، سوى المصابين بالجروح والإصابات الخطيرة.

والسجل التاريخي لنيجيريا لا ينسى كذلك ثلاث حملات كبرى مما شنتها هذه الجماعة في ذلك العام:

أولاها: كانت ضد مكتب الأمم المتحدة بأبوجا، وذلك في 26 من أغسطس 2011م، وهو في الحقيقة تفجير عنيف قُصف به مبنى المكتب، نتج عنه سقوط خمسة وعشرين شخصاً، وإصابة أكثر من مائة شخص، وقد كشف هذا التفجير أن أعضاء الحركة على استعداد لإجراء ما يُسمّى بتعبير الإعلاميين بـ «العملية الاستشهادية» (13).

وثانيها: هو التفجير الكبير الذي يعد – في الحقيقة – الأول من نوعه، استهدف رئيس الشرطة النيجيرية الحاج حافظ رِنْغِمْ قبل عزله، وقع التفجير بالمركز الأعلى للشرطة بأبوجا، حيث فجر قائد السيارة نفسه، فلقي كثيرون مصرعهم، ونجا رئيس الشرطة من الإصابة، وكأن هذه الإغارة ردّ فعل لحديث تحدث به مع إذاعة بي.بي.سي – قسم الهوسا، كشف فيه عن خطة شاملة وعزم صارم للإطاحة بهذه الحركة.

والحملة الكبيرة الثالثة: كانت على كنيسة كاثوليكية في يوم عيد الميلاد للمسيحيين، اليوم 25 من شهر ديسمبر، في ولاية نيجر، بالمحافظة المعروفة بـ «مادَلّلا Madalla»، أدى الهجوم المفجّر إلى مقتل أربعين، وإصابة آخرين بجروح، ويُتهم اثنان من قيادات الحركة بهذه المهمة «كبير صكتو» و «بشير مادللا»، وقد ألقي القبض على الأخير في 17 من فبراير.

 

آخر تطورات الأحداث في عام 2012م:

وفي 2 يناير 2012م أصدرت الجماعة تحذيراً للمسيحيين الموجودين في شمال نيجيريا بإخلاء الشمال كلياً في حدود ثلاثة أيام، وإلا فالويل والثبور لهم، وبعد ثلاثة أيام، وذلك في 5 من يناير تحديداً، هجم عناصر الحركة على كنيسة في ولاية «غومبي»، وقتلوا زوجة أسقف الكنيسة مع ستة رجال آخرين.

وفي 6 من يناير لقي اثنا عشر رجلاً من قبيلة «إيبو Igbo» مصرعهم بمحافظة «مُوبِي» في ولاية «أدماوا»، وفي اليوم نفسه قُتل اثنا عشر آخرون في أثناء الطقوس في كنيسة في «يُولا»؛ عاصمة ولاية «أداماوا».

وفي 14 من يناير اعتُقل أحد المشتبَهين بتدبير الهجوم على كنيسة Madalla يُسمّى الأستاذ كبير عمر صكتو، ثم بعد أربعة وعشرين ساعة انفلت من الشرطة صدفة، لما ذهبوا به إلى مقره للكشف والتحقيق، وقد تعجب من هذه المهزلة الشعب النيجيري كافة، ووعدت الشرطة بمبلغ عظيمة لمن يدل عليه، ووقع «كبير صكتو» في كمين القوات الأمنية، وألقي القبض عليه من جديد في 7 فبراير.

وفي يوم الجمعة 20 يناير الساعة الخامسة مساء، اهتزت مدينة «كنو» بدوي الانفجارات المتتالية بعد تمام الساعة الخامسة مساء، وقد استهدف بها سبعة مواضع، كلها مراكز للشرطة، وذكرت المصادر الحكومية أن ما لا يقل عن 186 لقوا حتفهم جرّاء تلك التفجيرات بمدينة «كنو»، وهو أكبر عدد من القتلى في يوم واحد منذ بدأت الحركة بعمليات التفجير والهجمات المسلحة، الأمر الذي دفع الرئيس جونثان إلى زيارة مدينة «كنو» للتعزية ومشاهدة مدى الخسائر، وبعد رجوعه إلى «أبوجا» أعلن عزل القائد الأعلى للشرطة، الحاج حافظ رنِغِمْ من أصل ولاية جِغاوَا، وأبدل مكانه الحاج أبو بكر من أصل ولاية زَنْفرا.

وظهر «الإمام شِيكَو» فيما أذاعته بي.بي.سي ظهراً في 26 يناير، مُقراً أن جماعته هم الذين شنوا تلك الغارة الشعواء بأمر منه، وأظهر أنه حادث مفرح جداً، وألقى باللائمة على الحكومة لأنهم بعد انتهاء الإغارة بدأ رجال البوليس بإطلاق الرصاص عشوائياً على الشعب.

دخل الشعب النيجيري، وبخاصة الشماليون، في معاناة ورعب من الأوضاع المتأزمة، وأخوف ما يخيفهم الجيش ورجال البوليس، حيث يعاملون الناس معاملة خشنة

والملفت للنظر في يوم 26 من يناير أن الرئيس جونثان طالب قيادة «جماعة أهل السنّة للدعوة والجهاد» أن تظهر في الساحة، وأشار إلى إمكانية الهدنة مع الحركة لإيقاف المواجهات وإيجاد السلام الشامل.

وكأن خطابه هذا جاء استجابة لرغبة كثير من ذوي الهيئة في إيجاد جوٍّ لصالح للهدنة، لكن لم تستجب قيادة الحركة للدعوة إلى الهدنة، وقد ذكر «الإمام شيكو» في شريط مسجل في 11 من يناير 2012م، قبل تفجيرات «كنو» عبر موقع يوتيوب، أنهم يقبلون مبادرات الهدنة ما دام أنها موافقة للهدنة الشرعية المبيّنة في القرآن (14) .

وفُوجئت بعض البيوتات في «ميدغري» ليلة السبت 28 بحشد من الجند يتخطفون بعض الشباب، وبعد تجميع أحد عشر شاباً أطلقوا عليهم النار وأعدموهم، وظهر بعد ذلك أن أولئك الشباب كانوا من «جماعة أهل السنّة للدعوة والجهاد»، وهذا بلا ريب مما يثير حفيظة زعماء الحركة.

وحصل في يوم 29 من يناير شيء مهم للغاية؛ إذ تحدث «أبو القعقاع» المتحدث باسم الحركة مع الصحافيين، وذكر أنهم أرسلوا رسائل إلى سلطان مسلمي نيجيريا محمد سعد بـ «صكتو»، وبعض كبار السياسيين في تلك الولاية، مطالبين إياهم بالتدخل في إطلاق سراح رجالات الحركة المعتقلين، وإلا سيوقعون دماراً شاملاً كما وقع في أماكن شتى بولاية «كنو»، وطالب في بيانه الحكومات بإطلاق سراح أعضاء الحركة المقبوض عليهم رجالاً ونساء؛ أينما كانوا (15).

وذكرت القوات الأمنية أنهم ألقوا القبض على «أبي القعقاع» المتحدث باسم الجماعة ليلة 31 من يناير 2012م (16)، غير أن الجماعة أنكروا القبض عليه، وتحدث «أبو القعقاع الحقيقي» مع الصحافيين، وأثبت أن المقبوض عليه ليس هو، وإنما يُدعى «أبو الدرداء»، وهو بالفعل من كبار عناصر الحركة، يشغل رئيس لجنة المفاوضات، وقد أرسلته الجماعة للاستعداد للهدنة المطروحة، ولكن جاء القبض عليه مخيباً للأمل وإجهاضاً لترتيبات الأمن والسلام في المستقبل.

وأضاف أن الحركة تتولى مسؤولية ذبح ستة أشخاص في «ميدغري»، وبيّن أنهم كانوا من قَبل من أعضاء الحركة ثم خانوها وأرشدوا الجند إلى أماكن وجود أحد عشر رجلاً من عناصرها، وهم الذين قتلهم الجند، ولا ريب أن قتلهم تفسير تطبيقي لما تقوله الحركة حول حتمية الهجوم على الوشاة بها.

وفي 7 من فبراير فوجئت ولاية «كدونا» بثلاث هجمات عنفية، ولم تسفر الهجمات عن قتلى، غير أن هناك كثيراً من المصابين بالجروح.

وفي أثناء هذه الأوضاع نشرت محطة تلفازية «NTA» شريطاً، يدّعي فيه شخصان متقنعان أنهما من الجماعة، واستخدم المتحدث بينهما اللغة الإنجليزية، وبيّن أنها عازمة على إجراء اتفاقيات السلام مع قيادات نيجيريا، وذكروا أربعة من كبار الشخصيات، وهم: الشيخ أبو بكر غَيرُو، والدكتور شَتِيما علي منغُنُو، والحاج علي بُوكَر إبراهيم- حاكم ولاية «يوبي» السابق، وشدّد على أن ما يبرمه هؤلاء الأربعة سيغير مجرى الأوضاع المتأزمة سريعاً.

ولكن في المقابل كذّب المتحدث باسم الحركة المعروف بـ «أبي القعقاع» هذا الشريط في تحاور هاتفي مع الصحافيين بـ «ميدغري»، وأوضح أنهم لا يقبلون أي مباردة للهدنة بعد القبض على «أبي الدرداء»(17)، وأكبر شاهد على ذلك الهجومات الثلاثة على ولاية «كدونا»، الولاية التي تمّ القبض فيها على «أبي الدرداء» ، ثم ظهر وزير الإعلام النيجيري يبدي تشكك الدولة في صحة ذلك الشريط، وأنها ما زالت على استعداد للهدنة مع جماعة «بوكو حرام»(18) .

 

نتائج الأحداث والمواجهات السابقة:

أولاً: تعطل المصالح العامة، حيث فرض حظر التجوال في بعض المدن، فتوقفت البنوك والأسواق عن العمل، وأُغلقت المدارس، وتجمّدت المجالسُ والمعاهد العلمية لعدم توافر الأمن، ودخل الشعب النيجيري، وبخاصة الشماليون، في معاناة ورعب من الأوضاع المتأزمة، وأخوف ما يخيفهم الجيش ورجال البوليس الموزّعون على الشوارع والسكك، حيث يعاملون الناس معاملة خشنة بالتخويف والضرب وأخذ الرشاوي.

ثانياً: ظهور أصوات تنادي بتقسيم الدولة، فقد بدأت بعض القبائل تنادي بتقسيم دولة نيجيريا إلى دولتين في الجنوب والشمال، وكانت قبيلة «إيبو» على مقدمة المناشدين لهذا التشقيق، وقد شجب هذه الدعوة بعض زعماء القبيلة، وكثير من كبار الشماليين، ولكن ظهرت أحداث خطيرة، حيث بدأ بعض الجنوبيين بالهجوم على المساجد بالتحريق والهدم، الأمر الذي قد تشتعل به نار الفتنة!

ثالثاً: انتشار الفساد بأضرابه في الحياة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والاقتصادية، حتى قطع شوطاً بعيد المدى في نيجيريا، وقد استطاع بعض المحتالين – وسط هذا الخضم – أن يلفّقوا الأكاذيب والحيل لأكل الأموال باسم الحركة، كما هو قد يدل على ذلك الشريط المرسل إلى المحطة التلفازية السابقة؛ إذ لم تكشف المحطة مصدرها، ولم يذكر المتحدث فيه عن اسمه، بل إن الجماعة لا تستخدم اللغة الإنجليزية أداة للنشر وتوجيه الخطاب للشعب أو لقادة نيجيريا.

وقد تزامنت هذه الأحداث مع البيان الذي نشره البروفيسور وُلَيْشُويِنْكَا، حيث ذكر أن حياته مستهدفة من قبل عناصر «بوكو حرام»، وهذا مع أن البروفيسور معروف بانتقاده اللاذع للشماليين(19) .

 

ثالثاً: مبادئ الحركة:

سوّغ «محمد يوسف» موقفه وموقف حركته عدة مرات من تعلّم العلوم العصرية قائلاً: إن نظام التعليم الغربي يتعارض مع تعاليم الإسلام

«جماعة أهل السنّة للدعوة والجهاد» من الحركات المعاصرة التي ترى أن تطبيق الشريعة لا يحصل إلا بالسلاح والمواجهة لإزالة الحكومة الظالمة، وردع معاونيها، وتوجّه الحركة الفعلي والمنهجية التي رسمها مرجعيتها يدلان على ذلك.

ونستطيع اكتناه المحتوى الحقيقي للحركة في دراسة متأنية لمبادئها والمناهج التي اختطّها أبرز قياداتها وعقلها المدبِّر، أعني الأستاذ «محمد يوسف»، لتحقيق الهدف وتفعيل الحركة، وكذلك ما يؤخذ من البيانات التي يصدرها قائدها «الإمام شيكو» على صفحات يوتيوب، فإن له دلالات ذات قيمة في تحليل اتجاه الجماعة.

وللحركة كتابات خاصة بحث فيها الكُتّاب منهم عن هذه المسائل، مثل كتاب «هذه عقيدتنا ومنهج دعوتنا» لمؤسس الحركة، وهناك كتاب آخر بعنوان «جاء الحق…»، أخفى مؤلفه اسمه الحقيقي، وسمّى نفسه «علاء الدين البرناوي»، وغير ذلك من الكتيبات، وقاموا بخطب منبرية، ومحاضرات توعوية كثيرة، بثّوها في أشرطة وسيديهات، حتى على الإنترنت.

 

وفيما يأتي نستعرض أبرز مبادئ الحركة:

هذه المبادئ والمناهج استخلصتُها – أنا – من أشرطة قيادات الحركة وكتبهم، وليس محررة من قِبلهم:

1 – إثبات الحاكمية لله تعالى وحده، وحرمة الديمقراطية لمضادتها الإسلام جملة وتفصيلاً،والسياسيون المنتخبون عن طريق الديمقراطية كلهم كفار؛ لإيمانهم بنظام يجري على الطرف النقيض للإسلام؛ «لأن الحكم بالقانون الوضعي كفر بواح» (20)، وينقد «محمد يوسف» قول القائلين: «لا يجوز الخروج، حتى ولو كان الحاكم كافراً تجب طاعته. لا شك أن هذا من جملة عقائد المرجئة…»، واستدل بحديث لتقوية رأيه، وهو ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله خطيباً، فكان من خطبته أن قال: «ألا إني أوشك أن أُدعى فأجيب، فيليكم عمال من بعدي، يقولون ما يعلمون، ويعملون بما يعرفون، وطاعة أولئك طاعة، فتلبثون كذلك دهراً، ثم يليكم عمال من بعدهم يقولون ما لا يعلمون، ويعملون ما لا يعرفون، فمن ناصحهم، ووازرهم، وشد على أعضادهم، فأولئك قد هلكوا وأهلكوا، خالطوهم بأجسادكم، وزايلوهم بأعمالكم، واشهدوا على المحسن بأنه محسن، وعلى المسيء بأنه مسيء»(21) .

2 – ويعتقد أعضاء الحركة أنهم «الفرقة الناجية»، وبهذه القناعة يتحركون، ودليل ذلك – في نظرهم – أنهم يُحيون روح الجهاد في مسلمي نيجيريا.

3 – تحريم التعلّم في المدارس النظامية من الابتدائبة إلى الجامعة، لعدة أسباب؛ منها(22) :

– أن المسيحيين المنصِّرين والمستعمِرين هم الذي أسّسوا هذه المدارس منذ البدء لتخدم غايتهم في تنصير الأمة المسلمة، وقد كان نظام التعليم تابعاً للإسلام في بلادنا قبل مجيء المنصِّرين، ولم يزل مستقيماً على الجادة حتى تغلّب المستعمِرون على جنبات البلاد، فكرّسوا أنظمتهم على كلّ مرافق الحياة، ولأهمية نظام التعليم، لارتباطه الوثيق وتأثيره في الحياة، قد خططوه، وأفرزوا المناهج، وفق ما يحوّل المسلم رويداً رويداً إلى الكافر، أو العميل لهم.

– انتشار الاختلاط الممزوج بالتبرج في الفصول والقاعات وساحات المدارس، والله تعالى يقول: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾ [الأحزاب : 33]، واقتضى هذا انتشار الفواحش والرذائل كالزنا والسحاق واللواط.

– تعلّم بعض المواد والأفكار والنظريات المضادة للدين، نحو نظرية دارون في تطوّر خلق الإنسان، والتي تخالف قول الله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ﴾ [الروم : 20]، واعتقاد بعضهم وقوف الشمس ودوران الأرض حول الشمس، ونظرية الذرة بأنها لا يمكن خلقها ولا إفنائها تخالف قول الله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [الرحمن : 26 ، 27]، وأن للنطفة روحاً متحركة يخالف قول الله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة : 28]، وأن المطر يعود إلى السماء في الصيف، ثم ينزل في الربيع، يقول: «المطر مثلاً نحن كمسلمين نعتقد أنه من عند الله، وليس من صنع الشمس»، تخالف هذه النظرية قول الله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ﴾ [المؤمنون : 18]، وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ…﴾ [النور : 43].

وكان «محمد يوسف» سوّغ موقفه وموقف حركته عدة مرات من تعلّم العلوم العصرية قائلاً: إن نظام التعليم الغربي يتعارض مع تعاليم الإسلام، والأمثلة على ذلك كثيرة، كما لا يؤمن «أبو يوسف» بأن الأرض كروية.

4 – رفضت الحركة العمل تحت الحكومات الديمقراطية الحالية، سواء في الشرطة والجند والأمن، وسائر الوظائف الديوانية؛ لأن ذلك من جملة الطاعة المطلقة لنظامها الكافر، والله تعالى يقول: ﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾ [هود : 113]، وبعد أن ذكر «محمد يوسف» جملة من الأحاديث قال: «فمجموع هذه الأحاديث تدل دلالة قطعية على أن العمل لا يجوز تحت الحكومة التي لا تحكم بالكتاب والسنّة، إنما تحكم بالقوانين الشيطانية، وكذلك لا يجوز عمل الشرطة والجندية تحتها من باب أولى»(23) .

 

رابعاً: مناهج الدعوة وآلياتها في الحركة:

تفترق كلمة «المنهج» عن كلمة «المبدأ»؛ من حيث أن «المبدأ» هو العقيدة العامة الكامنة في الضمير، يمضي نحوها صاحب المبدأ كغاية، وأما «المنهج» فهو الوسيلة التي رسمها صاحب المبدأ وهو يؤمن أن خطواته توصله مباشرة أو في نهاية المطاف إلى غايته، ولكل «مبدأ» وسيلة يُتوصّل بها إليه، غير أنها تختلف من حيث المشروعية وقابلية التطبيق.

ونتيجة لدراسة للمصادر المكتوبة، وما بثّه قادة الحركة باللغات الثلاث التي يَتَحدثون بها (الهوسا وكانوري، واللغة العربية) في خطبهم ودروسهم ومحاضراتهم المخزّنة في الأشرطة، استخلصت أهم ما ظهر أنه المنهج المختط لترسيخ المبادئ التي تريد الجماعة تحقيقها واقعياً.

ونجملها في النقاط الآتية:

1 – تشكيل الدولة:

تتطلب الدولة – كلّ دولة – مقوّمات خاصة؛ من أهمها «الإمام» الذي يقودها، ويكون رمزاً لعناصرها، ومرجعاً لشؤونها، و «محمد يوسف» قد تمّت له «البيعة» بالإمامة من قِبل عناصر حركته، ومن ثم كانت له صلاحية فرض الخوض في المعارك، وتحديد بنود الأمن والسلام.

ولهذا الإمام نائب عام، وهو «أبو بكر شِيكَو»، وأمين عام للحركة، وهو «محمد نور»، كما أن لكل ولاية من ولايات نيجيريا أميراً، تحته مندوبون من جهات بلده، ومسؤولون آخرون في كل الحكومات المحلية.

وللحركة مجلس للشوري، ينظر في الأمور الطارئة للتحقيق والمناقشة وإبرام الرأي الأخير، وكان «محمد يوسف» قبل وفاته لا يحيد قيد أنملة عمّا ارتآه ذلك المجلس، فحينما قطع مجلس الشوري – مثلاً – مشورة البدء بالجهاد على أراضي نيجيريا؛ أعلن «محمد يوسف» ذلك في المحاضرة المشهورة بـ «الرسالة المفتوحة إلى الحكومة الفيدرالية»، وذكر فيها أن جماعته خاضت في صميم المعركة مع حكومة نيجيريا.

2 – المنهج التربوي:

التربية التي يعتني بها أعضاء الحركة تجمع بين التربية الروحية والبدنية، أما التربية الروحية؛ فقد كانت مساجدهم مسكناً، ومدرسة، ومراكز لقيام الليل، وصيام النهار، وقراءة القرآن، والأذكار، وكانت مرجعية الحركة يكررون على مسامع عناصرها ترك الذنوب، وكلّ ما يخدش المروءة، ويُسقط الأعراض من حضور صالات الرقص، والسينما، وشرب الخمور، والزنا، والرياء والكبر والحسد والحقد، إلخ (24).

وأما التربية البدنية؛ فإنهم في بعض الأحايين يقومون في المساجد نفسها، يربّون أنفسهم على الرمي وبعض الأنشطة المقويّة للجسد، ولهم جولة على الأقدام كلّ صباح بعد صلاة الفجر، ويدعوهم الزعيم إلى التمرينات، ولو في البيوت، لإجادة الرمي والتصويب وسائر الأنشطة، وفوق ذلك هناك عناصر تقوم الحركة بتدريبهم تدريبات عسكرية في الفيافي، وإرسالهم إلى أصحابهم في العقيدة والحركة في البلدان النائية، والدول المجاورة.

3 – المنهج التعليمي:

يقف منهج «بوكو حرام» التعليمي على الدروس المجلسية والمحاضرات، وإقراء الكتب في مساجدهم الخاصة، وبما أن ولاية «برنو» هي معقل الحركة؛ فإن لهم فيها أربعة مجالس كبيرة في «ميدغري»، وهي:

1 – مركز ابن تيمية: كان «محمد يوسف» يلقي فيه دروسه يومي السبت والأحد.

2 – حارة دُوْكِي UnguwarDoki : اتخذ فيها مجلساً لتفسير القرآن كلّ يوم الجمعة ليلاً، وهو أكبر مجالسه.

3 – مسجد فِزَان Fizan : كان يلقي فيه بعض الدروس، وينوب عنه بعض الدعاة في غيابه.

4 – مسجد مَفُوْنِي Mafoni : يلقون فيه المحاضرات العامة مرة أو مرتين في الشهر.

استفاد أعداء الإسلام من ثورة هذه الحركة، وكان من نتائج ذلك أن هرول رؤساء نيجيريا يستنجدون بأمريكا وإنجلترا في مواجهة هذه الحركة وكان تركيزهم في بعض الكتب، أو المقاطع من بعض الكتب التي تحض على الجهاد، وتوضّح نواقض الإيمان، وتشمل الكتب المدرّسة لديهم: تفسير القرآن، وصحيح البخاري، ورياض الصالحين للإمام النووي، وبلوغ المرام للحافظ ابن حجر، والرسالة لابن أبي زيد القيراوني، والأصول الثلاثة وكتاب التوحيد (كلاهما للشيخ محمد بن عبد الوهاب)، وأحكام الجنائز وكتاب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (كلاهما للشيخ الألباني)، والولاء والبراء للشيخ الفوزان، وغيرها، وقد بلغ من اعتناء «أبي يوسف» بالمجالس والدروس أن أصبحت هي شغله الشاغل على مدار الأسبوع، قلما تفوته إلا أن يذهب لدرس آخر في بعض المدن والولايات.

ومن جانب آخر لهم مدراس خاصة لتحفيظ القرآن للصغار، وبخاصة المدرسة الملحقة بمسجد ابن تيمية، كان الصغار يتعلمون القرآن مجوداً، ويحفظون الأوراد النبوية، وتلتزم المدرسة كذلك بالمظاهر والزي الإسلامي من لبس العمامة للفتيان، والحجاب للفتيات، وقد انتهز المدرسون في هذه المدارس فرصة للدعوة، وتطعيم الأطفال بعض الأفكار التي آمن بها بعض زعماء الحركة، كتحريم مشاهدة التلفاز، وغير ذلك.

ويفضل أعضاء الجماعة استخدام اللغة العربية في التحدث والتخاطب، ولعله من أجل مكانة اللغة في دين الإسلام، وهو اللغز الذي عسر فكه لدى بعض الشعب، فظنّوا أنهم ليسوا بنيجيريين، وإنما أتوا من بعض الدول الإفريقية، وحاولت القيادات تمييز الجماعة عن باقي الحركات السلفية، لحد أنهم يعدّون سائر أهل السنّة كسالى، وهذا صريح في بعض خطابات «محمد يوسف»، وكان يصب جام غضبه على كسالى من العلماء، على أنه في بعض الأحايين كان ينهى أعضاء الحركة عن إطلاق كلمة «الطاغوت» على العلماء(25) .

 

4 – المصادر العلمية المعتمدة لدى الحركة:

تقول قيادات حركة «بوكو حرام» إنهم يعتمدون على فتاوى العلماء السابقين في كلّ ما يقولونه من رأي، وكان من دأب زعيم الحركة أن يذكر أسماء المراجع والمصادر التي هي كالقطب لحركته، أو لرأي ذهب إليه، يذكر مثلاً كتاب الشيخ بكر أبي زيد رحمه الله تعالى «المدارس العالمية الأجنبية»، وكتاب «مدارك النظر في السياسة: بين التطبيقات الشرعية والانفعالات الحماسية» للشيخ عبد الملك بن أحمد بن المبارك رمضاني الجزائري، وكتاب «حكم الجاهلية»، وهي مجموعة مقالات وتعليقات للشيخ أحمد محمد شاكر- جمعها ابنه الأستاذ أسامة، وكتاب «العلمانية» للشيخ أحمد شاكر أيضاً، وقد صرّح «محمد يوسف» في بعض أشرطته أنه تأثر جداً بهذا الكتاب (26).

ومن المصادر التي تعتمدها مرجعية «بوكو حرام» أيضاً: «فتاوى اللجنة الدائمة»، ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، وكتب ابن القيم، وتفسير ابن كثير، وفتاوى بعض العلماء المعاصرين أمثال الشيوخ: الألباني، وابن باز، وابن عثيمين، وغيرهم.

وتكرر قيادة هذه الحركة أن ما أتت به من الفتاوى في القيام ضد الحكام الظالمين، وتحريم التعليم على نمط «بوكو»، وما إلى ذلك كله مستقى من فتاوى العلماء السابقين، ليسوا هم من استنبطوها، وما لهم فيها إلا قراءتها وتفسيرها وترجمتها إلى لغة الهوسا، بالرغم من أنه – في الحقيقة – ليس بالضروري أن يكون الكلام المذكور هو الرأي الذي يعتقده ويفعله – عملياً – العالم المنقول كلامه، ومع ذلك يتحدى «أبو يوسف» كلَّ من كان يرى أن دعوته أو ما يقول، فيه: «المغالطة» و «الخطأ»، أو «سوء الترجمة»، أو «عدم الفهم»، و «طفولية التفكير»، و «عدم النضوج في العلم» – أن يتقدم مشكوراً ليعيد النظر فيما يقوله، ويبين للناس الحقيقة! وكرّر ذلك قائد الحركة الحالي بأن تأويلات المتأولين لإقرار النظام الديمقراطي، وتثبيت إمكانية تحالف علماء المسلمين مع المسيحيين، كلّ ذلك هُراء لا أساس له، ولا يصرفهم عن تنفيذ أمر الله تعالى.

 

خامساً: علاقة «بوكو حرام» بتنظيم القاعدة:

يظهر «الانتماء الروحي» لهذه الجماعة إلى تنظيم القاعدة في الاستشهادات بأقوال رموز القاعدة التي يكثر منها زعيم الحركة، حيث ينقل مثلاً عن أبي مصعب الزرقاوي، ويصفه بـ «المجاهد» ، وغيره(27).

واتضحت مؤخراً علاقة حركة «بوكو حرام» مع تنظيم القاعدة في بعض المواقف، وهذا ما بيّنه «موسى تنكو» الناطق الرسمي باسم الحركة – في النشرة الهوساوية بإذاعة BBC – بعد مقتل قائدها، حيث أكد انضمام حركتهم إلى تنظيم القاعدة (28)، وقد يكون لهذا البيان تفسير آخر، وهو بثّ الروع بين صفوف رؤساء الدولة، ورجال الأمن، دون أن يكون له أثر واقعي.

وحسبما تنقله بعض وكالات الأنباء في مواقعها على الإنترنت؛ فإن هذه الحركة قد تمّ استدعاؤها من قبل أمير تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي الجزائري (أبي مصعب عبد الودود) للانضمام في مظلة القاعدة، وكان من ضمن أطروحته التي صرّح بها لهم: أنه يحلم بتوسيع منطقة نفوذه لتشمل نيجيريا (29)، ولكن بعض المصادر تؤكد أن الحركة على علاقة وطيدة مع التنظيم من خلال السلفية الجهادية في الجزائر، والثوار في تشاد، وخصوصاً أن ولاية «برنو» تجاور جمهورية تشاد، وقد تمّت الاتفاقات بينهم وبين «أبي يوسف» طيلة دعوته إلى مبادئ الحركة(30) .

ولا يعني سرد هذه الأخبار هنا التصديق بها كلياً، غير أنها على أية حال مؤشر إلى انتماء الحركة – ولو فكرياً – إلى تنظيم القاعدة – إن صحّ التعبير!

 

سادساً: التمويل في حركة «بوكو حرام»:

بنى بعض المحلّلين على تلك الأخبار السابقة – وغيرها، مما تجمّع لديهم- أن تنظيم القاعدة هو المورد الأساس والمموّل الأول للحركة؛ بينما يرى بعض آخر أن بعض رجال الدولة النيجيرية لهم دَخْل حتى النخاع في استثارة «محمد يوسف» ضد الحكومة، ويموّلون كل نشاطاته (31).

ويقول آخرون إن هناك بعض الأثرياء، قد تكونت العلاقة الوثيقة بينهم منذ انتماء «أبي يوسف» إلى جماعة أهل السنّة والجماعة في التسعينيات، فهؤلاء الرجال هم الذين يتكفلون برأس مال الحركة.

هذه التكهنات من الأمور التي تحتاج إلى مستند قوي، نعم! للباحثين أن يسألوا مَنْ يموّل محمد يوسف في حياته؟ إذ أنه لم يرث هذه الأموال، وليس ببائع عقارات، ولم يشتهر بالتجارة، ولا كان موظفاً – في أبعد الافتراضات -! وإنما صرف همّه إلى الدعوة، بيد أنه دافع عن نفسه بأن له إخوة يقومون باستثمار أمواله، ويفلحون أرضاً لهم كبيرة، ومع ذلك لم يقتنع الناس، لمّا تحققوا من قيامه بحاجات فوق مستوى دخله، الأمر الذي يدل على أن تحت الدخان تتأجج النيران!

لذلك لم يزل الناس يتساءلون طالبين الجواب الكافي: ما المصادر المموِّلة التي تمّد «محمد يوسف» حتى يذبح لتابعيه الساكنين في المركز شياهاً وأبقاراً كلّ أسبوع، ويفعل أشياء أخرى لا يمكن لرجل عادي أن يقوم بها – كما يرى بعض المحللين – إن لم تكن هناك جهة خفية تموّله؟! هذه تساؤلات يرددها الصحافيون والمتابعون لنشاط الحركة! وصرّح الرئيس جونثان بوجود عناصر الحركة في حكومته، لكنه لم يذكر التفاصيل، لا هو ولا أحد الوزراء أو أعضاء الحكومة!

صحيح أن بعض أعضاء الحركة من الولايات المختلفة قد باعوا ممتلكاتهم من البيوت وحُلي النساء استعداداً للجهاد، وذلك في بداية الأمر، وجمع ناشطو الحركة من التجار ما يرونه مناصرة لها، ولم تخرج هذه المسألة لحدّ الآن من الغموض؛ إذ الحركة استمرت في نشاطاتها من غير أن تعوزها النفقة!

 

سابعا: تأثيرات الحركة في الدعوة داخل نيجيريا وخارجها:

لا شك أن ما يحدث في شمال نيجيريا له انعكاسات سلبية على الدعوة، من جانب أن أعضاء الحركة لهم انتماء قوي إلى أهل السنّة، الأمر الذي اتخذه بعض أعداء السنّة من النصارى وأهل البدع ذريعة للطعن في أهل السنّة كافة، ويقومون بتحريض الحكومات ضدهم، وهذا – والحمد لله – لم يؤثر كثيراً، بسبب الجهود التي ما يزال علماء أهل السنّة يقومون بها لتوضيح منهج السنّة، وتوجيه النصائح إلى قيادات «جماعة أهل السنّة للدعوة والجهاد».

غير أن أعداء الإسلام استفادوا من ثورة هذه الحركة، حيث لوّحوا بوضع شمال نيجيريا في قائمتهم السوداء للإرهابيين، وكان من نتائج ذلك أن هرول رؤساء نيجيريا يستنجدون بأمريكا وإنجلترا في مواجهة هذه الحركة، وجرت بينهم اتفاقيات؛ من ضمنها أنهم يقومون بتدريب القوات الأمنية النيجيرية على مكافحة الإرهاب، وتقوم أمريكا بفتح مكتب عريض، أو قنصلية في ولاية «كنو»، حدث هذا بعد المواجهات التي حدثت في الولاية، ولا يتوقع أي مردود إيجابي للشعب إزاء تلك السياسات.

 

ثامنا: موقف العلماء والعامة من الحركة وأفكارها:

تصدّى علماء أهل السنّة للمنهج الذي اتخذته «جماعة أهل السنّة للدعوة والجهاد» منذ بدايتها، موضحين لقياداتها الزغل المنطوي في منهجهم، كما قاموا بمحاضرات وإصدار كتيبات ومقالات شارحة للمنهج السوي، وجرت مناظرات بين بعض العلماء وقيادات الحركة حول توجهاتها، ولكن أعضاء الحركة يرمون علماء أهل السنّة بالكسل، وعدم التحرك لنصرة الدين.

وقد بيّن العلماء أن الأمر يحتاج إلى اتباع الحكمة والموعظة الحسنة، وليس الأخذ بمنهج العنف ولغة السلاح، ومن جانب آخر، يرون هذه الحوادث فتنة تحتاج إلى التؤدة والدعاء، لذلك يجتهدون في دعاء القنوت في مساجدهم.

وأما العامة؛ فإن موقفهم لم يتغير عن موقف العلماء، لكنهم لا يشعرون تجاه القوات الأمنية النيجيرية بأسى أو تحسّر لما يصيبها، ويرون أنه قصاص لما يلاقيه الشعب على يد رجال الأمن من التعذيب والتصفية الجسدية.

 

الخاتمة:

هذا البحث استعراض وجيز لتاريخ حركة «جماعة أهل السنّة للدعوة والجهاد» (بوكو حرام)، والإشارة إلى الدوافع إلى نشأتها والغرض منها، وثبت لنا أن الحركة لها كيان مؤثّر، وأنها ليست جمعية ربحية، ولا تعمل لأي جهة رسمية أو غير رسمية، ولها اهتمام بطلب العلم الشرعي ونشره، والنهي عن الانضمام في المدارس النظامية الموجودة لمضادة جوانب في مناهجها لتعاليم الإسلام.

ولكن لم يظهر لحد الآن ما يثبت أنها تكفّر سائر المسلمين، وإنما حصرت قتالها ضد ثلاث طوائف، وهم: قوات الأمن، والنصارى، والوشاة بهم، وقد قتلت الآلاف من هذه الطوائف، بمن فيهم أفراد من سائر الشعب، وتعتقد الحركة بذلك أنها تسعى لإعادة الدولة الإسلامية في أرض نيجيريا.

وقامت الحكومة النيجيرية بدحر اعتداءات رجال «بوكو حرام»، واتبعت كل وسيلة متاحة لاصطياد عناصر الحركة، وقد نجحت في إلقاء القبض على ثلاثة من كبار قياداتها.

ويرى الشعب أنه قد طال أمده تحت ظلم الحكام وفساد السياسيين، وهذه المرة قد دارت الكرّة على الظالمين أنفسهم، وبالرغم من ذلك ما زال الرعب مطوقاً لقلوب الشعب النيجيري عامة، لذلك ما زالوا يدعون الله تعالى أن يرفع هذه الفتنة، وينحيها عن هذا الوطن.

 

الهوامش والإحالات:

(*) قسم الدراسات الإسلامية – جامعة بايرو- كنو.

 

(1)عمر الكدي: زعيم «بوكو حرام» النيجيرية.. نهاية غامضة لرجل غامض، على هذا الموقع:

http://www.rnw.nl/arabic/article/15235

(2) أجوبته لتساؤلات بي.بي.سي. بعنوان: BBC Interview with Boko Haram Leader.

(3)شريط «كشف الشهبات».

(4) Nigerian Army attacks Islamist mosque, kill scores،

الرابط: http://www.zeenews.com/news551374.html

(5) نشرت محطة الجزيرة الإنجليزية بعض اللقطات التي ظهر فيها الإعدام العنجهي لبعض المتهمين بالانتساب إلى جماعة «بوكو حرام»:http://www.aljazeera.com/news/africa/2009/07/200973135730251561.html

(6) راجع خبر حوار محمد يوسف مع الجند قبل مقتله : إضغط هنا

(7)جريدة الشرق الأوسط، مقال بعنوان: شرطة نيجيريا: زعيم «بوكو حرام» طلب الصفح قبل قتله: مقتل الملا محمد يوسف زعيم «طالبان نيجيريا» بعد اعتقاله، يوم السبـت 09 شعبـان 1430 هـ 1 أغسطس م2009 العدد 11204، على هذا الموقع:

http://www.aawsat.com/details.asp?section=4&issueno=11204&article=529987

(8) Newstime Africa, Mass Burial For Boko Haram Victims, Mass Burial For Boko Haram Victims | Newstime Africa

 

(9) News Africa, Profile: Boko Haram, Tuesday, February 09,2010

http://english.aljazeera.net/news/africa.html

 

Steve Coll reports for The New Yorker, (Think Tank): BokoHaram,July, 2010:

 

http://www.newyorker.com/online/blogs/stevecoll/2009/08/boko-haram.html

 

ومقال: البرلمان النيجيري يدعو للتحقيق بمجزرة بوكو حرام، السبت 13 فبراير 2010م، على موقع: http://www.islamstory.com

 

(10) محيط – جيهان مصطفى: «بوكو حرام».. كابوس أوباما في نيجيريا، على هذا الموقع:

 

http://www.moheet.com/show_files.aspx?fid=332544

 

(11)Ben Shemang, Boko Haram deputy alive, vows to continue anti-Western fight, 02 July 2010: Boko Haram deputy alive, vows to continue anti-Western fight – Nigeria – RFI

 

(12) بي.بي.سي هوسا، أخبار المساء، 24 من يناير 2012م، وكذلك التقارير المنشورة بعنوان:- Nigeria: Boko Haram Widens Terror Compaingn, Bring Attackers to Justice, Step up Security, published by Human Rights Watch, www.org/news/2012/23/nigeria-boko-haram-widen-terror

(13) راجع هذا الموقع لمشاهدة الرجل الذي نفذ العملية، وتحمل الحركة المسؤولية:

(14) http://www.youtube.com/watch?feature=endscreen&v=wqLUUv7G5fg&NR=1

(15) http://www.9jabook.com/forum/topics/sss-arrests-boko-haram-leader-s-wife-son

(16) http://www.bbc.co.uk/hausa/news/2012/02/120201_qaqaarrest.shtml

(17) بي.بي.سي- قسم الهوسا، نهار الثلاثاء 7/2/2012م.

(18) بي.بي.سي- قسم الهوسا، ليلة الخميس 8/2/2012م.

Continue Reading

أمريكا

كتاب : (صعود الإسلام السياسي في تركيا) – The Rise of Political Islam in Turkey

Published

on

تحليل المهندس أحمد سمير

أنجل رابسا ****************** Angel Rabasa

ستيفين لاربي ****************** Stephen Larrabee

============================

** كتاب في منتهى الأهمية أصدرته مؤسسة راند عام ٢٠٠٨ ولم يتم ترجمته حتى الآن!!

** مؤسسة راند من أخطر مراكز البحث الأمريكية المقربة من مراكز انخاذ القرار في أمريكا وتتبع البنتاجون

** الكتاب جاء كمحاولة لتوضيح الرؤية حول حزب (العدالة والتنمية) وذلك بعد فوزه في انتخابات ٢٠٠٧ للمرة الثانية على التوالي

** التقرير وضع تنبؤات وسيناريوهات مختلفة تتعلق بمستقبل الحزب وأداء حكومته برئاسة أردوغان وقد جاءت تنبؤاته دقيقة بشكل مذهل!

** على خلاف كل تقارير راند في حديثها العدائي والمحذر من (الإسلام الراديكالي) تجد هذا الكتاب متعاطفا جدا لما اعتبره “إسلاما معتدلا” في تركيا، بل ويدعو لدعمه مع وجود الحذر الخفي منه أيضا

** يكشف الكتاب جانب مهم من العقلية التحليلية التي يعتمد عليها صناع القرار الأمريكان:- فهي عقلية “عملية” جدا ولا تهتم بالشعارات ولا يهمها مطلقا – بخلاف العلمانيين المحليين – النوايا الداخلية للأفراد! هم يتعاملون بواقعية مطلقة ويقيمون الواقع والمستقبل وفق المعطيات الموجودة

** أزعم أن التقرير أو الكتاب من أدق وأهم ما كُتب عن تجربة أردوغان في تركيا رغم أنه كُتب في ٢٠٠٨ بل لم أجد شيئا مكتوبا عن “التجربة الأردغانية” يستحق القراءة غيره!

** الغرض الأساسي من تحليل مثل هذه التقارير هو الوقوف على ما يراه الغرب ويخطط له مع الاستفادة قطعا من منهجهم التحليلي بل ومن تحليلاتهم نفسها، وأتمنى أن يتطوع أحد بترجمة هذا التقرير كما حدث مع التقرير السابق “سرقة دفتر خطط القاعدة”

==================

* سأقسم تحليل هذا الكتاب إلى أربعة عنوانين:-

١- تعريف “تركيا” من وجهة نظر الكتاب
٢- حزب “العدالة والتنمية” من وجهة نظر الكتاب
٣- أربع سيناريوهات أمام التجربة الأردوغانية لتحديد مستقبلها
٤- ست اعتبارات هامة لأمريكا في التجربة الأردوغانية

==================

<<<< ١- تعريف تركيا سياسيا بحسب الكتاب >>>>

تركيا هي دولة ذات أغلبية مسلمة ومع ذلك هي:-
١- دولة علمانية ديموقراطية
٢- عضو في الناتو
٣- عضو مرشح في الاتحاد الأوربي
٤- يوجد على أرضها قاعدة (إنجرليك) الجوية الأمريكية والتي تعد قاعدة رئيسية في الحرب الأمريكية في العراق وفي أفغانستان
٥- تركيا دولة محورية جدا للاستراتيجية الأمريكية في تأمين منطقة “الشرق الأوسط” بل ومنطقة البلقان والقوقاز
٦- أهمية تركيا اليوم لم تُكتسب من موقعها الجغرافي فقط ولكن أيضا من نموذج التعايش المشترك الذي قدمته بين الإسلام وبين الديموقراطية العلمانية والعولمة والحداثة

=================

<<<< ٢- حزب العدالة والتنمية من وجهة نظر الكتاب >>>

هو حزب لا يعرّف نفسه أنه حزب إسلامي مطلقا، ولا يعلن اتّباعه لأي أجندة إسلامية، ولذلك فوزه في الانتخابات لا يعني حتى عند الجماهير التركية أي انتصار “للأجندة الإسلامية”، والحزب يختلف تماما عن أسلافه “الإسلاميين” اختلافا جذريا في الأيديولوجية، والأهداف السياسية، وكذلك يختلف من حيث توجهه نحو الاقتصاد الرأسمالي المنفتح، ويختلف من حيث الجمهور الذي يستهدفه، ويختلف في نظرته للغرب وخطابه لهم، فحكومته قد جعلت من أولى أولوياتها تحصيل عضوية الاتحاد الأوربي

====================

<<<< ٣- أربع سيناريوهات أمام التجربة الأردوغانية لتحديد مستقبلها >>>>

وضح البحث أربع سيناريوهات لتوقع (مستقبل حزب العدالة والتنمية) لاحظ أن هذا كان في ٢٠٠٨!!! ووضع أكثر (سيناريو) متوقع في المقدمة، وهذه هي الأربع سيناريوهات:-

١- السناريو الأول:- (أن يسلك حزب العدالة والتنمية مسار الاتحاد الأوربي المعتدل)

طبقا لهذا السيناريو – فقط – سيتمكن أردوغان وحزب العدالة والتنمية من المحافظة على السلطة والبقاء فيها! وذلك عن طريق الحفاظ على النهج المعتدل الذي يمثل التوجه الذي يريده الاتحاد الأوربي، في هذا السيناريو سيحدث الآتي (لاحظ أن هذا قيل في ٢٠٠٨):-
١- ستقل وتتلاشى صور المعاداة للمظاهر الإسلامية
٢- سيعطي الحزب مساحة أكبر من الحرية الدينية للأفراد وسيتمكن أصحاب التوجه الإسلامي من الإعلان عن هويتهم الإسلامية

إلا أنه في الوقت نفسه لن يكون هناك وجود مطلقا لتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية داخليا، وأما خارجيا فلن تؤثر النزعة الإسلامية مطلقا على سياسات تركيا الخارجية، وهذا هو ما يهم الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي من تركيا

كذلك من المتوقع في هذا السيناريو أن حكومة العدالة والتنمية برئاسة أردوغان ستسعى لتحجيم التدخل العسكري في السياسة وستزيل كثيرا من الحواجز المفروضة حول الأقليات الدينية المختلفة

وقد رجح التقرير هذا السيناريو جدا (وهو ما حدث فعلا بالضبط)

٢- السيناريو الثاني:- (الزحف الإسلامي)

هذا السيناريو هو السيناريو المرعب للعلمانيين، وهو سيناريو يفترض أن حزب العدالة والتنمية برئاسة أردوغان يمتلك أجندة إسلامية خفية غير معلنة وعدائية، وأنه يحمل خطة لأسلمة المجتمع التركي ستظهر بتوليه السلطة، كما سيقوم بالسيطرة على السلطتيين التشرعية والتنفيذية، وسيصبح الحزب حينها بتوجه إسلامي معلن هو المتحكم في تعيين القضاة ورؤساء الجامعات والإدرايين بل وسيتحكم في القرارات الشخصية داخل الجيش، كما أنه على مستوى السياسات الخارجية لن يسعى للانضمام للاتحاد الأوربي بل سيسعى في إنشاء وتأسيس (تكتل إسلامي) جديد في العالم خاصة مع إيران وسوريا، وهنا يلمحون إلى شيئين:
١- إلى أن تركيا بحسب هذا السيناريو ستتحول كإيران وسوريا فيما يسمى معسكر الممانعة، فتأخذ توجهات عدائية للولايات المتحدة وإسرائيل
٢- ويشير أيضا هذا السيناريو إلى البدء الجاد في إعادة بناء الخلافة (تكتل إسلامي)
أي بعبارة أخرى لن تصبح تركيا في هذا السيناريو “دولة علمانية” وستبدأ في هدم أصول الأتاتوركية، وقد قلل البحث تماما من قيمة هذا السيناريو الوهمي، واعتبره غير وارد، ولم يُلق له كبير اهتمام

(ملاحظة:- هذا السيناريو الوهمي هو الذي مازال بعض السذج يتحدثون عنه حتى الآن متغافلين أن هذا كان تخوفا مطروحا كاحتمال ضعيف في الكتب الأمريكية من ٦ سنوات! ، ولكن الحزب حدد مساره أمام الجميع)

٣- السيناريو الثالث:- (إلغاء حزب العدالة والتنمية عبر المحكمة الدستورية)
هذا سيناريو قد يراه العض حلا للأزمة وقد يعمقها أكثر، خاصة وحزب العدالة والتنمية يتمتع بتأييد شعبي واسع في تركيا، كما أنه سيناريو قليل الأهمية حيث أن الحزب سيكون قادرا للعودة إلى السلطة مرة اخرى عبر الانتخابات تحت اسم جديد!

٤- السيناريو الرابع:- (الانقلاب العسكري)
وهو سيناريو لا يتوقع التقرير أن يحدث مادامت حكومة العدالة والتنمية لم تتخط النقاط الرئيسية التي تهم الجيش
(إضافة مني:- هذا السيناريو تحقق في مصر ليس للاختلاف بين فكر الإخوان في مصر وفكر حزب (العدالة والتنمية) ولا أعتقد أن “الانقلاب” في مصر وراءه أسباب أيديولوجية، الحقيقة من وجهة نظري هي اختلاف الجيش في مصر عن الجيش التركي، فالجيش في مصر لا يحمي النظام فقط وقيمه، بل يحمي إمبراطوريته الاقتصادية والتي لا شك أن طموحات الإخوان قد تصادمت معها وقد ظهر ذلك جليا في مشروع قناة السويس بالذات)

======================

<<<< ٤- ست اعتبارات هامة لأمريكا تتعلق بتركيا وتجربة حزب العدالة والتنمية بحسب الكتاب >>>>

**الأول:- تركيا اليوم هي مثال رائع في إثبات إمكانية تحديث منطقة “الشرق الأوسط” سياسيا بدون الحاجة للانخراط في العنف والانقسامات التي صاحبت عمليات التحديث الأخرى (يقصد التدخل الأمريكي في أفغانستان والعراق)
فوجود حكم له مرجعية إسلامية في منظومة علمانية ديموقراطية، ويحترم هذا الحكم فصل الدين عن الدولة سينهي أسطورة تعارض الإسلام مع العلمانية والديموقراطية
بينما لو فشلت هذه التجربة فهذا سيصب في مصلحة (الإسلام الراديكالي) وستفشل أمريكا في احتواء انتشار هذا التيار، وستزيد حدة التوتر والصراع بين الإسلام والعلمانية ولن يكون هناك فرصة لبناء مساحة رمادية ومنطقة متوسطة بين الأيديولوجتين
ولذلك حتى خارج تركيا يجب أن تدعم أمريكا وجود امتدادات لهذه الفكرة عن الإسلام والتي تصب في صالح هزيمة المتشددين، إلا أنه من المهم جدا أن يحذر صناع القرار في أمريكا من وصف تركيا علنا “بالنموذج” الذي يجب أن يُحتذى به في “الشرق الإوسط”، لأن إعلان ذلك ربما سيزيد من مخاوف العلمانيين والجيش، حيث سيتعبرونه بمثابة تدعيم لهوية تركيا الشرق أوسطية على حساب هويتها الغربية

**الثاني:- تنامي قوة “الإسلام السياسي” في تركيا جاء نتيجة عوامل داخلية، على رأسها التحولات الديموقراطية والاقتصادية الاجتماعية داخل تركيا خلال العقود الماضية، وغياب أمريكا عن هذه المساحة تسبب في ذلك، وهذا يوضح أهمية أن تبدأ أمريكا في زراعة نخب جديدة ومتنوعة لملء هذا الفراغ

**الثالث:- من السطحية رؤية التوتر الحادث في تركيا على أنه صراع بين الإسلام والعلمانية، هو في الحقيقة جزء من صراع على السلطة بين القطاعات الاجتماعية الناشئة حديثا والنخبة العلمانية القديمة، والتي لها جذور في المجتمع التركي العثماني والحديث أيضا
ففي عام ١٩٨٠ أصبح هناك شيء من الديموقراطية في تركيا سمحت لقوى كثيرة تم استبعادها في الماضي (ومن ضمنهم الإسلاميين) من إعادة تنظيم نفسها ونشر وجهات نظرها ورؤاها السياسية
وكأن التقرير يريد أن يقول أن زمن العلمانية الجافة التي حكمت تركيا بالإقصاء وبحد السيف قد انتهى، وقد جاء دور علمانية جديدة تتصالح مع الجميع ولا تقصي أحدا وهي علمانية أردوغان

**الرابع:- حزب العدالة والتنمية هو حزب له جذور إسلامية، لكنه استطاع أن يحظى تأييدا بين شرائح مختلفة في المجتمع التركي، فعبر شبكة علاقاته الاجتماعية تجد له تأييدا من الطبقات الفقيرة والمهمشة، وفي الوقت نفسه يحظى بتأييد طبقات اجتماعية أخرى عبر سياسته الاقتصادية الليبرالية المنفتحة التي تدعم حرية السوق وتنهج نهجا متلائما مع الاقتصاد العالمي، كما أنه استطاع أن يكسب تأييدا داخل الأقليات عبر إعطائهم قدرا من الحرية والتسامح

**الخامس: في العقد الماضي خضع حزب (العدالة والتنمية) لتحول أيديولوجي، حيث تخلى عن الخطاب العدائي تجاه الغرب والذي كان يميز أسلافه، وانتهج في خطابه نهجا آخر يؤكد على القيم المتسقة مع المجتمعات الغربية، كما ظهر هذا التحول الفكري والأيديولوجي من موقف الحزب من الانضمام للاتحاد الأوربي
فقد كان قديما الذين يدعمون هذا التوجه هم الكماليون (نسبة لكمال الدين أتاتورك) في ظل رفض إسلامي لتغريب تركيا
واليوم من المفارقات أن (حزب العدالة والتنمية) ذو الجذور الإسلامية أصبح هو من يتبع خطوات إصلاحية وجادة في السعي للحصول على عضوية الاتحاد الأوربي في ظل تخوف الكماليين والجيش من أن ينصب ذلك في إضعاف قبضتهم السلطوية!
وبالرغم من كون أمريكا ليست عضوا في الاتحاد الأوربي إلا أنها تدرك كيف تؤثر في إدارة هذا الملف، ويرى البحث أن فشل تركيا في دخول الاتحاد الأوربي قد يعزز من تلك النظرات المعادية للتوجه الغربي داخل تركيا، وكأنه يحث أمريكا على التدخل لصالح ضم تركيا للاتحاد الأوربي

**السادس:- علاقة تركيا “بالشرق الأوسط” هي أخطر ملف تهتم به الإدارة الأمريكية، فتركيا بها أهم قاعدة جوية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وهي قاعدة (إنجرليك)، ولا يمكن للولايات المتحدة أن تستغنى عن تسهيلات تركيا العسكرية لها، ولذلك يُخشى من أن امتداد المصالح التركية داخل الشرق الأوسط قد يؤثر على هذه التسهيلات خوفا على مصالحها، وإن كانت أمريكا قادرة حينها على الضغط على تركيا بعدة طرق
ولذلك أوصى التقرير بضرورة توطيد أمريكا علاقتها (بحزب العدالة والتنمية) بل أوصى التقرير صراحة بضرورة دعم حكومة أردوغان في مواجهاته ضد حزب العمال الكردستاني وهجماته الإرهابية، ورأى ضرورة أن تقدم أمريكا للحكومة التركية الدعم الاستخبارات والعسكري الكامل في هذه الحرب

كان هذا هو وجهة نظر الكتاب المهم عن حزب العدالة والتنمية وليس رأيي الشخصي، وما كان إضافة مني فقد نبهت لذلك أثناء التحليل
==================

ملاحظة:- الواضح من التقرير السابق لزمنه أن هناك توجه غربي لعدم إفشال تجربة أردوغان بخلاف الخطة الأمريكية تجاه “الإسلام السياسي” في باقي دول “الشرق الأوسط” فخطة أمريكا في البلاد الأخرى كانت إيصالهم للسلطة من أجل إفشالهم وحرقهم ولذلك لم يتم اتخاذ موقف حاسم مع ما يسمى “الانقلاب” في مصر ، وهو موقف مختلف عما يحدث مع التجربة التركية لأنهم لا يعدونها تجربة إسلامية أصلا!

المصدر 

Continue Reading

آسيا

نص خطاب هاس الكامل “نحو مزيد من الديمقراطية في العالم الإسلامي”

Published

on

خطاب السفير ريتشارد هاس مدير قسم التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الأميركية القي في مجلس العلاقات الخارجية واشنطن، العاصمة 4 كانون الثاني/ديسمبر، 2002

يسرني ويشرّفني أن أكون هنا مساء هذا اليوم. وأن يكون فؤاد عجمي هو الذي قدمني لأمر جيد فعلاً. فؤاد إنسان حكيم وخبير في صناعة الكلام، إذ أنه يوضح في كتبه ومقالاته وتعليقاته ما يبدو غير شفّاف في كثير من الأحيان. إنني مدين له مرّتين لأنه نقل موقع حصته الدراسية مساء هذا اليوم ليكون معنا. الواقع أنه جاء بحصته إلى هنا. وعليه، فإني أتصوّر إذاً أنه مدين لي لأنه لم يعد بحاجة إلى إعداد أي محاضرة لإلقائها في حصته. فبإمكاني القول، والحال هذه، أننا متساوون.

ويسرني أيضاً أن أتكلم في مجلس العلاقات الخارجية. أنا أشعر أنني في بيتي لأني عملت مرة في هذا المجلس.  فالمجلس لا يزال مؤسسة الفكر والرأي الرئيسية في هذا الحقل. أقول ذلك بكل إخلاص لأني، عندما عملت في مكان قريب لدى مؤسسة زميلة – وقد يقول البعض إنها منافسة – كنا نقيس النجاح بعدد البحّاثة لدينا الذين يظهرون على صفحات مجلة فورين أفيرز أو يشاركون في فرق الدراسة أو فرق العمل التابعة للمجلس.

ومن دواعي سروري مساء هذا اليوم أن تسنح لي فرصة التحدث معكم حول فرص تعزيز الديمقراطية في العالم الإسلامي. فمساندة وتوسيع رقعة الديمقراطية كانت دائماً مسألة مركزية بالنسبة للسياسة الخارجية الأميركية. فمنذ ظهور نقاط الرئيس وودرو ويلسون الأربع عشرة إلى مشروع مارشال، رأينا في توسع الحرية والديمقراطية مصلحة قومية أساسية. وقد شجعت الولايات المتحدة، في عهد أحدث، بلداناً مختلفة مثل كوريا الجنوبية، والفيليبين، والسلفادور، وجنوب أفريقيا، وتشيلي في مراحل انتقالها إلى الديمقراطية. كما لعبنا دوراً قيادياً في تأييد انتشار الديمقراطية في بلدان أوروبا الشرقية الشيوعية سابقاً.

لا تزال الديمقراطية نقطة محورية في السياسة الأميركية اليوم. تؤكد استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة: “أن على أميركا أن تقف بحزم إلى جانب مطالب الكرامة الإنسانية غير القابلة  للتفاوض: حكم القانون؛ الحدّ من السلطات المطلقة للدولة؛ حرية التعبير؛ حرية العبادة؛ المساواة في العدالة؛ احترام النساء؛ التسامح الديني والإثني؛ واحترام الملكية الخاصة.”

لماذا ركزّت الولايات المتحدة بهذه الكثرة على الديمقراطية؟

ففي الدرجة الأعمق أساساً، نحن نساند الديمقراطية كمسألة مبدئية. فهي في صميم ما نحن عليه كدولة وما نمثله نحن كشعب. عند استلامه ميدالية فيلادلفيا للحرية في 4 أيار/مايو 2002، تحدث وزير الخارجية باول “عن مسؤوليتنا كمواطني أعظم ديمقراطية في العالم، في أن نضمن أن بلدنا هو قوة في خدمة الحرية حول العالم. والحقيقة أن الحقوق التي لا تنازل عنها في الحياة، أي الحرية ونشدان السعادة قد وهبها الله لكل الجنس البشري. فهي ملك كل رجل وامرأة وولد على وجه الأرض.” وسوف تساعد الولايات المتحدة  الدول الأخرى في تحقيق هذه الطموحات الأساسية لأنها كونية.  فهذه القيم ليست مجرد نمط حياة تعتقد أميركا أن من واجبها تصديره.

وثمة أيضاً أسباب عملية تدعو الولايات المتحدة إلى تعزيز الديمقراطية في الخارج، للدلالة على أن الواقعية والمثالية يمكنهما التكامل. فبكل بساطة، سوف نزدهر أكثر كشعب وكدولة في عالم من الديمقراطيات بدلاً من عالم من الأنظمة الاستبدادية والفوضوية.

العالم الديمقراطي هو عالم مسالم أكثر. فنمط الديمقراطيات المتأصلة التي لا تتحارب مع بعضها البعض هو أحد أهم النتائج التي أمكن إثباتها في دراسات العلاقات الدولية. هذا لا يعني أنه لا يمكن أن تكون لنا مصالح متشابكة وتعاون مثمر مع بلدان غير ديمقراطية، كما لا يعني أنه لن تكون هناك خلافات قوية في وجهات النظر مع الديمقراطيات الزميلة. لكن كلما ازداد عدد الديمقراطيات في العالم، كلما اتسعت المناطق في العالم التي من المحتمل أن تسعى دولها إلى حل خلافاتها بالطرق الدبلوماسية.

نحن نرى هذا بكل وضوح في أوروبا. اليوم، وعلى الرغم من تاريخ طويل من الحروب الوحشية التي بلغت ذروتها في حربين عالميتين ذات كلفة بشرية هائلة، لم تعد الديمقراطيات الأوروبية تفكر بمحاربة بعضها البعض. على العكس، يكرس الأوروبيون جهودهم لأجل تحقيق تكامل أكبر. لقد دخلت ألمانيا وفرنسا في حرب ثلاث مرات بين 1870 و1940. واليوم، عندما يقوم خلاف بين فرنسا الديمقراطية وألمانيا الديمقراطية، تتفاوضان بشأنه حول طاولة مؤتمر، وليس في ساحة القتال.

الإنتشار السريع للديمقراطية في أميركا اللاتينية الذي طال المنطقة بكاملها تقريباً قد خفف أيضاً إلى درجة كبيرة من إمكانيات الحرب في نصف القارة الغربي عندنا. وفي حين كانت البرازيل والأرجنتين تعززان الديمقراطية لديهما، فإنهما قررتا التخلي عن السعي وراء السلاح الذري. وعندما تم في ليما، عاصمة البيرو، في نفس يوم هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، التوقيع على شرعة الديمقراطية التي أعدتها منظمة الدول الأميركية، تعهدت كل دولة في نصف القارة الغربية، باستثناء كوبا وحدها، تعزيز الديمقراطية في الداخل وتقديم المساعدة لجيرانها إذا ما تعرضت الديمقراطية فيها إلى تهديد أو تداعيات.

وللديمقراطية أيضاً صلة وثيقة بالازدهار. نحن في أعمال السياسة الخارجية نركز غالباً على الاتجاه نحو نمو اقتصاد السوق مع الوقت لإدخال الديمقراطية. ومن المؤكد أن النمو الاقتصادي في كوريا الجنوبية وتايوان وتشيلي قد ساعد على إقامة أسس أقوى للديمقراطية.

كما أنه، من جهة مقابلة، يساعد حكم القانون الشفاف، وتساوي الفرص الأكبر الذي توفره الديمقراطيات، بدوره في تحفيز النمو الاقتصادي والازدهار. لقد أدى انتقال السلطة سلمياً وبطريقة يمكن توقعها إلى المزيد من الانفتاح وتراجع الفساد في المكسيك مما أنشأ الظروف التي تمكن النمو الاقتصادي المستدام من أن يزدهر.

من المهم، قبل الذهاب إلى أبعد من هذا، تعريف الكلمات. فأنا، عندما أتكلم عن الديمقراطية، لا أتحدث عن أشكالها أو مؤسساتها أو انتخاباتها وحسب. فالديمقراطية تقوم في الأساس على توزيع السلطة – في الحكومة وفي المجتمع. ففي الحكومات الديمقراطية، توزّع السلطة بحيث لا يسيطر صوت واحد غير خاضع للمساءلة. الحكومات القومية في الأنظمة الديمقراطية، تتطلب وجود ضوابط وتوازنات، مثلاً، عن طريق المنافسة بين فروع الحكم التشريعية والتنفيذية، وكذلك عن طريق القضاء المستقل. فالحكومة القوية عليها أن تواجه تقييدات المعارضة المنتخبة.

ويمكن أيضاً إدخال الضوابط والتوازنات بين مختلف المستويات الحكومية – القومية والمناطقية، والمحلية. تلك هي الطريقة التي تستمر بها في حالات كثيرة الديمقراطيات المتعددة الإثنيات.

ومن الأمور المركزية لفكرة الديمقراطية أنه يتوجب على القادة إعادة تسليم سلطاتهم المؤقتة. كان جون آدامز رئيساً أميركياً عظيماً لعدة أسباب، لكن لم يكن هناك سبب أهم من قبوله التخلي عن السلطة بطريقة سلمية عندما خسر انتخابات كانت موضع جدل مرير أمام توماس جفرسون. بمعنى آخر، يستأجر القادة الديمقراطيون سلطاتهم بدلاً من امتلاكها – لأن السلطات الممنوحة لهم تأتي من الشعب. فالديمقراطية هي في الحقيقة “من الشعب، بالشعب، وللشعب”. فهي تتوقف على الدور النشط للشعب (الأساس في الديمقراطية).

وكما توجد حاجة إلى بعض الضوابط والتوازنات داخل الحكومة، هناك أيضاً حاجة إلى ضوابط وتوازنات بين الحكومة والمجتمع. وهذه أهم بالنسبة للديمقراطية منها للحكومات.  فالسلطة يجب أن يشارك فيها مجتمع مدني حيوي وتعددي، مجتمع يمتلك “الحياة المجموعاتية” التي كتب عنها الكاتب الفرنسي دي توكفيل قبل 170 سنة، أي، تشكيلة واسعة من المجموعات الخاصة والمؤسسات الخاصة. وتضم هذه الأحزاب السياسية، والنقابات العمالية، وجمعيات رجال الأعمال، والمدارس، ووسائل الإعلام، المستقلة عن بعضها البعض، وعن سيطرة الدولة. يُزاد على ذلك، أنه لا يجوز استبعاد أي مجموعة أثنية، أو جنس، أو طبقة من الشعب عن المشاركة الكاملة في الحياة السياسية، كما يجب حماية الحقوق الفردية، بما فيها حرية التعبير والعبادة.

بهذا المعنى، حققت الديمقراطية بعض النجاحات الهامة خلال العقود الثلاثة الأخيرة.  فقد بلغت موجة الانتقال إلى الديمقراطية، التي بدأت في البرتغال وأسبانيا في أواسط السبعينات من القرن الماضي إلى أميركا اللاتينية وشرق آسيا في الثمانينات من القرن الماضي، وبلغت ذروتها على أثر انهيار حلف وارسو والاتحاد السوفياتي. أطلق صامويل هنتنغتون ولاري داياموند على هذه الموجة أسم “الموجة الثالثة”، إذ أنها كانت القفزة الثالثة والأهم في عدد الديمقراطيات التي تلت تلك التي ظهرت إثر موجة التحرر من الاستعمار عقب الحربين العالميتين الأولى والثانية. ومن الجدير بالإشارة إليه هو أن 118 ديمقراطية قد دعيت إلى مجتمع الديمقراطيات الوزاري الذي استضافته جمهورية كوريا بين العاشر والثاني عشر من تشرين الثاني/نوفمبر هذه السنة. كانت هذه 118 ديمقراطية تظهر فيها أسس حقيقية للديمقراطية، إضافة إلى 21 دولة دعيت بصفة دول مراقبة. الحقيقة أن كوريا الجنوبية هي نفسها إحدى أوائل هذه الدول في حكاية نجاح الموجة الثالثة، ذلك أن رئيسها كان معارضاً خارجياً وهو الآن قائد انتخب بحرية ويستعد للتخلي عن منصبه بعد إجراء انتخابات حرة ونزيهة.

تجارب العالم الإسلامي

حضر عدد من الدول ذات الأكثرية الإسلامية اجتماع مجتمع الديمقراطيات في سيوول، ضم أفغانستان، والجزائر، وبنغلادش، وإندونيسيا، والأردن، والكويت، ومالي، والمغرب، ونيجيريا، وقطر، وتركيا، واليمن. هذه البلدان إما ديمقراطيات أو في طريقها لأن تصبح أكثر ديمقراطية.

إن كون هذا العدد الكبير من البلدان الإسلامية قد دعي إلى سيوول أما كديمقراطيات ناضجة أو مراقبة، يعكس الواقع القائل بان تطورات واعدة تحصل حالياً عبر العالم الإسلامي. أستعمل عبارة “العالم الإسلامي” مع بعض التخوّف لإدراكي للتنوع الكبير للبلدان التي يشملها هذا التعبير كما وباتساعها الجغرافي – من المغرب إلى إندونيسيا ومن كازاخستان إلى تشاد. لكن، ضمن هذا التنوع، ثمة بعض النقاط المشتركة:  أي أن المسلمين، متى تتوفر لهم الفرص، يتبنّون القواعد الديمقراطية ويختارون الديمقراطية.

لقد أشار الرئيس بوش إلى هذه النقطة عندما خاطب خريجي كلية وست بوينت العسكرية في الأول من حزيران / يونيو 2002 إذ قال: “عندما تتعلق القضية بالحقوق والاحتياجات المشتركة للرجال والنساء، ليس هناك صدام حضارات.  فمتطلبات الحرية تنطبق تماماً على أفريقيا وأميركا اللاتينية وكل العالم الإسلامي.  فشعوب الدول الإسلامية تريد وتستحق الحريات ذاتها مثلها مثل الشعوب في كل بلد.  ومن واجب حكوماتهم الإصغاء إلى آمالهم.”

تدلّ تجاربُ الإصلاحات الديناميكية التي تجري حالياً في العديد من أجزاء العالم الإسلامي أن الديمقراطية والإسلام متلائمان. وأود أن ألقي الضوء على بعض هذه التجارب معترفاً بأن هذا البعض أبعد من أن يشكل لائحة كاملة.

ففي المغرب، أدلى المواطنون بأصواتهم في أيلول/سبتمبر الماضي في أكثر انتخابات حرية ونزاهة وشفافية في تاريخ البلاد، وكوّنوا مجلساً نيابياً منوعاً.

في تشرين الأول/أكتوبر، أدلى مواطنو البحرين بأصواتهم لأول مرة منذ ثلاثين سنة لانتخاب مجلس نيابي جديد. وكانت هذه المرة الأولى أيضاً التي تترشح فيها نساء لمراكز قومية. وفي الأسبوع الماضي، أعلن سلطان عمان قابوس عن منح حق التصويت في انتخابات مجلس الشورى إلى جميع البالغين من سكان البلاد. وفي مطلع هذا العام، أعلنت قطر عن دستور جديد استعداداً للانتخابات النيابية القادمة. ولا تفاخر اليمن اليوم بنظام متعدد الأحزاب وبمجلس نيابي منتخب فحسب، بل وأيضاً بالانتخاب المباشر للمسؤولين في البلديات، وبدءاً من سنة 1999، بالانتخاب المباشر لرئيس الجمهورية. بعد حرب الخليج، أعادت الكويت الانتخاب المباشر لمجلسها الوطني؛ ويستعد الكويتيون حالياًً للجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها في الصيف القادم.

وفي أماكن أخرى، نشاهد عدة عناصر للديمقراطية في بلدان ذات أكثرية إسلامية مثل ماليزيا وإندونيسيا. ونسمع أصواتاً إسلامية مشجعة تدعو إلى التعددّية والديمقراطية، بدءاً من محمد طالبي في تونس إلى نورشوليش مجيد، على مسافة نصف العالم، في إندونيسيا، البلد الإسلامي الأكثر سكاناً.  تلك هي فقط بعض الأمثلة عن التّخمرّ الديمقراطي الذي يحصل في أماكن أخرى من العالم الإسلامي، من ألبانيا إلى جيبوتي ومالي والنيجر والسنغال وسيراليون. هذا النقاش لا زال بعيدا عن الحل تماما كما لا زال أمام التجارب التي ناقشتها طريقاً طويلة قبل أن تتثبت فيها الديمقراطية. لكن لا يجوز إغفال التقدم الكبير الذي يحصل.

وعلينا أيضاً الاعتراف بأن المسلمين يشاركون بصورة كاملة وبنشاط في الحياة المدنية للبلدان الديمقراطية حيث لا يشكلّون أكثرية السكان. إن حوالي أربعين بالمئة من المسلمين يعيشون كأقليات بما في ذلك عدة ملايين هنا هم جزء هام ونشيط من الديمقراطية الأميركية. ففي بلدان مثل الهند وفرنسا وجنوب أفريقيا، يدحض المسلمون الإشاعات الكاذبة بأن طريقة الحياة الإسلامية لا تتلاءم مع المشاركة الديمقراطية.

كما أننا ندرك إمكانيات قيام ديموقراطيات أكثر في مناطق أخرى من العالم الإسلامي. دعوني أذكر ثلاثة أمثلة فقط. ففي أوساط الشعب الفلسطيني، نستمع إلى مطالبة قوية بالمؤسسات الديمقراطية. وتعمل الولايات المتحدة إلى جانب الاتحاد الأوروبي والبلدان العربية لمساعدة الفلسطينيين في إيجاد إطار عمل دستوري جديد وديمقراطية فعّالة. لقد أشار الرئيس بوش إلى “أن نهاية الاحتلال وقيام دولة فلسطينية مسالمة وديمقراطية قد تبدو بعيدة، لكن أميركا وشركاءنا حول العالم على استعداد للمساعدة، لمساعدتكم على جعل ذلك ممكناً بأقرب وقت ممكن. فإذا كانت الحرية قادرة على أن تزدهر في الأراضي المضطربة للضفة الغربية وغزة، فإنها سوف تلهم ملايين الرجال والنساء حول العالم من المرهقين أيضاً بالفقر والقمع، والمؤهلين بدورهم للفوائد التي تؤمنها الحكومة الديمقراطية.”

ونرى في إيران مطالبة شعبية بالإصلاحات على نطاق واسع سوف ينتج عنها، على ما نأمل، مزيداً من الديمقراطية ومزيداً من الانفتاح. فشعب إيران يطمح إلى نفس الحريات وحقوق الإنسان والفرص كما الشعوب الأخرى حول العالم. الشعب الإيراني يصارع مسائل صعبة تدور حول كيفية بناء مجتمع حديث للقرن الحادي والعشرين يكون في نفس الوقت مسلما، ومزدهرا وحراّ. ففي الانتخابين الرئاسيين الإيرانيين الأخيرين، وفي حوالي ستة انتخابات برلمانية ومحلية، صوتت الأكثرية العريضة للشعب الإيراني لمصلحة الإصلاح السياسي والاقتصادي.

ويستحق العراق أيضاً أن نذكره في هذا السياق. أميركا صديق لشعب العراق الموهوب ولطموحاته. مطالبنا موجهة فقط إلى النظام الذي يستعبد هذا الشعب ويهدد باقي العالم. عندما سيتحرر العراقيون من ثقل القمع، سوف يصبحون قادرين على المشاركة في تقدم وازدهار عصرنا. الولايات المتحدة وحلفاؤنا على استعداد لمساعدة الشعب العراقي على إنشاء مؤسسات الحرية في عراق حر وموحّد.

نقص الحرية والديمقراطية في العالم الإسلامي

على الرغم من هذه الإشارات المشجعة، ينبغي علينا الإعتراف، واقعياً، بوجود نقص في الحريات في العديد من أجزاء العالم الإسلامي، وعلى الأخص في العالم العربي. يدعم آدريان كراتنتسكي، رئيس مؤسسة فريدوم هاوس بالوثائق في نشرة المؤسسة تحت عنوان “تقرير وضع الحرية 2001-2002 ” الفجوة الخطيرة بين مستويات الحرية والديمقراطية في البلدان الإسلامية – على الأخص في قلبها العربي – وفي باقي أنحاء العالم.”

الفجوة الديمقراطية بين العالم الإسلامي وباقي أنحاء العالم هائلة.  إن واحدة فقط من أصل كل أربع دول ذات أكثرية إسلامية لديها حكومات منتخبة بطريقة ديمقراطية. علاوة على ذلك، تزداد الفجوة اتساعاً بين البلدان الإسلامية وباقي العالم. خلال السنوات العشرين الأخيرة، تمدّدت الحرية والديمقراطية في بلدان في أميركا اللاتينية، وإفريقيا، وأوروبا، وآسيا. وعلى العكس من ذلك، لا يزال العالم الإسلامي يصارع. صحيح أن عدد البلدان “الحرّة”، حسب معايير فريدوم هاوس قد ازداد حول العالم بمعدل ستة وثلاثين بلداً تقريبا خلال السنوات العشرين الماضية، لكن لم يكن بين تلك البلدان أي بلد ذي أكثرية إسلامية.

قد يقول البعض إن هذه الأحكام أحكام غربية وهي بالتالي غير نزيهة. لهؤلاء، أشير إلى وثيقة صَدَرت في الصيف الماضي وأعدّها فريق من أكثر من 30 باحثاً عربياً، أي إلى تقرير التنمية الإنسانية العربية الذي كتب برعاية برنامج الأمم المتحدة للتنمية والصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، والذي يصوّر عالما عربيا لا يساير الركب العالم بالنسبة إلى المناطق الأخرى في أمور أساسية تشمل الحريات الفردية، وتعزيز مكانة المرأة، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. إنه يصف شعوباً غير مزدهرة وغير حرة. ويشير إلى اتجاهات مقلقة، مثل ازدياد أعداد الشباب مضافة اليها البطالة بينهم التي تكاد تبلغ حوالي 40 بالمئة في بعض الأماكن  وتنذر بظروف اجتماعية قابلة للانفجار.  يواجه العالم العربي مشاكل جدّية يمكن معالجتها فقط على أيدي أنظمة سياسية أكثر مرونة وديمقراطية.

إنهاء الاستثناء الديمقراطي

لا يمكن للمسلمين لوم الولايات المتحدة على افتقار بلدانهم إلى الديمقراطية عندهم. لكن يبقى أن الولايات المتحدة تلعب دوراً كبيراً على المسرح الدولي كما أن جهودنا الرامية إلى تشجيع الديمقراطية في العالم الإسلامي قد كانت أحيانا عرجاء وغير كاملة. الحقيقة أن الحكومات الأميركية المتعاقبة، الجمهورية والديمقراطية على حد سواء، لم تجعل من الديمقراطية أولوية بشكل كاف في العديد من أجزاء العالم الإسلامي، وعلى الأخص، في العالم العربي.

في بعض الأحيان، تجنّبت الولايات المتحدة النظر بتعمّق في الأعمال الداخلية للبلدان لصالح تأمين دفق متواصل من النفط، ولكبح التوسع السوفياتي والعراقي والإيراني، وللتعامل مع القضايا المتصلة بالنزاع العربي – الإسرائيلي، ومقاومة الشيوعية في شرق آسيا، أو تأمين حق الحصول على القواعد لقواتنا العسكرية. وهكذا، ولإهمالنا تقديم المساعدة لتعزيز المسار التدريجي نحو الديمقراطية في العديد من علاقاتنا الهامة – بخلقنا ما يمكن تسميته “الاستثناء الديمقراطي” – فاتتنا قرصة مساعدة تلك البلدان لكي تصبح أكثر استقراراً، وأكثر ازدهاراً، وأكثر سلاماً، وأكثر تكيّفاً مع ضغوطات عالم في طور التعولم.

ليس من مصلحتنا – أو من مصلحة الشعوب التي تعيش في العالم الإسلامي – أن تواصل الولايات المتحدة هذا الإستثناء.  سوف تتعامل السياسة الأميركية بنشاط أكبر لمساندة الاتجاهات الديمقراطية في العالم الإسلامي أكثر من أي وقت مضى. هذه هي رسالة الرئيس الواضحة في وثيقةاستراتيجية الأمن القومي.

سوف نفعل ذلك مع علمنا التام أن الديمقراطيات غير كاملة. إنها معّقدة. والحقيقة، أن القادة في بعض الدول الإسلامية يقابلون بين الأنظمة الديمقراطية وبين أنظمتهم، وهي أنظمة أكثر نظاماً، ويشيرون بارتياح إلى الاستقرار الظاهري التي تؤمنه أنظمتهم. لكن الاستقرار القائم على السلطة وحدها استقرار وهمي وتستحيل استدامته في نهاية المطاف. لقد شاهدنا في إيران ورومانيا وفي ليبيريا ماذا حصل عندما تنفجر طنجرة الضغط. فالأنظمة الاستبدادية الجامدة لا يمكنها الصمود بوجه صدمات التغيرات الاجتماعية والسياسية أو الاقتصادية، خصوصاً من النوع أو بالوتيرة التي يتميز بها العالم المعاصر.

الدور الذي تلعبه الديمقراطية في تأمين الاستقرار الداخلي بيّنته بوضوح محادثة أجريتها مع مجموعة إسلامية مؤخراً خلال زيارتي للهند. فقد شرحوا لي الأسباب التي تقف وراء غياب الإرهاب لدى المجتمعات الإسلامية الكبيرة في الهند. كان تفسيرهم أن الهند بلد ديمقراطي، وأن المسلمين يشاركون فيه بالكامل، وفي المناسبات التي لا يشاركون فيها، لهم الحق الكامل في اللجوء إلى النظام القضائي.

عندما نجعل من العملية الديمقراطية أولوية كبرى في تعاملنا مع العالم الإسلامي، علينا قبل أي شيء آخر، على غرار الأطباء، احترام حلف هيبوقراط وعدم التسبب بالإيذاء أولاً. فالحماس غير المنضبط لتحسين العالم قد يجعله أسوأ. علينا القيام بهذه المهمة بتواضع مُتفهمين أن رهان الآخرين أكبر من رهاننا. ففي الوقت الذي تتحرك فيه شعوب العالم الإسلامي نحو تطور أكثر انفتاحاً وديمقراطية، يتوجب علينا ليس فقط تشجيعهم ومساعدتهم، بل نحتاج أيضاً إلى الإصغاء إلى الشعوب المعنية مباشرة بشكل أكبر.

الدوافع الأميركية

قد يتساءل الناس عن التوقيت، وبالطبع عن الدوافع، لإثارة هذه القضية في هذا الوقت بالذات. وقد يشير البعض إلى أن حديثي هذا المساء يأتي وسط جهود دولية مضاعفة لجعل العراق ينصاع لقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وقد يرى آخرون في كلامي حول الديمقراطية إما محاولة لإخفاء مصلحتنا في تغيير النظام في العراق، أو كإشارة لعدائنا تجاه شعوب العالم الإسلامي. وبالطبع، سوف يذهب البعض إلى حد القول إن الحديث الأميركي حول الديمقراطية يهدف إلى قلب الأنظمة عبر الشرق الأوسط، أو سوف يستخدم كعملية تأديبية ضد الذين ينظر اليهم كأعداء لأميركا. اسمحوا لي أن أتناول بعض هذه المخاوف.

أولأً، ليس هناك برنامج عمل مخفي. إن الأساس المنطقي الأميركي في تشجيع الديمقراطية في العالم الإسلامي هو في نفس الوقت لمصلحتنا ولمصلحة الغير. فالمزيد من الديمقراطية في البلدان ذات الأكثرية الإسلامية هو أمر جيد بالنسبة للشعوب التي تعيش هناك.  لكنه أيضاً جيد بالنسبة للولايات المتحدة. فالبلدان المبتلاة بالجمود الاقتصادي والافتقار إلى فرص العمل، وبالأنظمة السياسية المغلقة، وبالسكان المتكاثرين بسرعة، تغذي العداوة لدى مواطنيها. ويمكن أن تكون تلك المجتمعات، كما تعلمّنا من التجربة القاسية، أرضاً خصبة لتربية المتطرفين والإرهابيين الذين يستهدفون الولايات المتحدة بحجة دعمها للأنظمة التي يعيشون في ظلها. الأمر الآخر الذي له أهمية معادلة، هو أن الهوة المتزايدة بين العديد من الأنظمة الإسلامية ومواطنيها قد تعطّل قدرة تلك الحكومات في التعاون حول قضايا ذات أهمية حيوية بالنسبة للولايات المتحدة. هذه الضغوطات الداخلية سوف تحدّ كثيراً من قدرة العديد من أنظمة العالم الإسلامي على توفير العون، أو حتى الموافقة على الجهود الأميركية الرامية إلى مكافحة الإرهاب أو التعامل مع انتشار أسلحة الدمار الشامل.

خلال الأشهر القليلة الماضية، قمت بزيارة لمصر وباكستان والعديد من دول الخليج، من بينها العربية السعودية، وسنحت لي الفرصة لمناقشة هذه القضايا مع أناس ينتمون إلى تشكيلة واسعة من الخلفيات والاتجاهات.  كان أكثر ما صدمني عدد الذين يشعرون بالإحباط بالنسبة لتقصير الولايات المتحدة في التحدث جهاراً بإسم الديمقراطية.  فسكوتنا، في نظرهم، يعني الموافقة الضمنية على الحالة الراهنة. ليس هذا هو الواقع دون ريب، لكن محادثاتي أظهرت، عندما يتعلق الأمر بتنفيذ السياسة الخارجية، كيف يكون خطر الامتناع عن العمل مُساوٍ لخطر القيام بعمل.

قد يقول البعض إن الولايات المتحدة على استعداد فقط لمساندة النتائج الانتخابية التي ترضيها. ليس الأمر كذلك. الولايات المتحدة سوف تساند العمليات الديمقراطية حتى إذا كان الذين منحوا السلطة لا يختارون سياسات نحبذها. لكن دعوني أوضح هذه النقطة. علاقات الولايات المتحدة مع الحكومات، حتى لو انتخبت بنزاهة، سوف تتوقف على كيفية معاملة هذه الحكومات لشعوبها وكيف تتصرف على المسرح الدولي بالنسبة لقضايا تبدأ من الإرهاب مروراً بالتجارة وعدم انتشار المخدرات.

نحن ندرك تماماً عندما نشجع الديمقراطية، أن التحرك المفاجئ نحو الانتخابات الحرة  في البلدان ذات الأكثرية الإسلامية قد يأتي بالأحزاب الإسلامية إلى الحكم. لكن السبب لا يكمن في كون الأحزاب الإسلامية تتمتع بثقة السكان الساحقة بل لأنها في الغالب المعارضة المنظمة الوحيدة للحالة الراهنة التي تجدها أعداد متزايدة من الناس غير مقبولة. بعد الذي قلته، دعونا لا نترك مجالاً لسوء الفهم: الولايات المتحدة لا تعارض الأحزاب الإسلامية تماماً كما لا تعارض الأحزاب المسيحية أو اليهودية أو الهندوسية في الديمقراطيات ذات الأسس العريضة. إن طريقة استقبالنا لنتائج انتخابات الشهر الماضي في تركيا تبرهن بوضوح على هذه النقطة. لقد عبّر عن ذلك رئيس وزراء تركيا، عبد الله غول، على أحسن ما يرام، عندما قال بعد إدلاء القَسَم قبيل تسلمه منصبه: “نريد أن نثبت أن الهوية الإسلامية يمكن أن تكون ديموقرطية، ويمكن أن تكون شفافة، ويمكن أن تتماشى مع العالم المعاصر.” والأميركيون على ثقة بأن الشعب التركي قادر على إثبات كل هذا ونريد أن نساعدهم في ذلك.

وهناك من سيقول إن الديمقراطية مستحيلة في العالم الإسلامي لأنه لديه القليل من التاريخ أو التقاليد الديمقراطية. وهذا قول أرفضه أيضاً؛  ذلك أنه، حتى زمن غير بعيد، كان عند القليل من أجزاء أخرى من العالم بعض التجارب الديمقراطية. هذا الإدعاء يعكس ما وصفه الرئيس بوش بأنه “تعصب مقنع يقوم على أدنى التوقعات الممكنة”. فكما قال مرة سفير عُماني سابق لدى واشنطن: “إن خنق حرية التعبير في تجربتنا القومية، وحرمان شعبنا من الانتخابات الحرة، أو إدارة شؤوننا دون تأمين الإجماع بشأنها، ومنع النشاط السياسي السلمي عن جماهيرنا، ليست هذه خصوصية عربية أو من شروط العقيدة الإسلامية.”

دروس تعلّمناها

سوف تعمل الولايات المتحدة بقوة أكثر من أي وقت مضى على تشجيع الديمقراطية بالشراكة مع شعوب وحكومات العالم الإسلامي.

إحدى آليات هذا الهدف سوف تكون شراكة جديدة سيعلن عنها في الأشهر القادمة الوزير باول. وسوف تركز هذه المبادرة على تشجيع التطور في ثلاثة مجالات حساسة بالنسبة للتقدم في العالم العربي: الإصلاحات الاقتصادية، والتعليمية، والسياسية. سوف نؤمن موارد جديدة لهذه الجهود علاوة على المليار دولار أميركي التي ننفقها سنوياً في المساعدة الاقتصادية في العالم العربي. وفي حين سنموّل مشاريع جديدة هادفة إلى توسيع المشاركة السياسية، ومساندة المجتمع المدني وحكم القانون، سوف تُوجّهنا ثمانية دروس تعلمناها في أنحاء أخرى من العالم.

 أولاً، هناك عدة نماذج للديمقراطية. ليس على العملية الديمقراطية إتباع نموذج واحد؛ والحقيقة أنه لا يوجد نموذج ديمقراطي واحد لتقليده. فبدءاً من الملكيات الدستورية إلى الجمهوريات الفدرالية وإلى الأنظمة البرلمانية من كل الألوان، يظهر التاريخ تنوع الديمقراطية. فهناك فوارق هائلة عبر العالم الإسلامي ويجب تكييف الأنظمة السياسية لكي تتلاءم مع بيئتها المحلية.

ثانيا، الانتخابات لا تصنع الديمقراطية.  فكما رأينا في انتخابات العراق، حيث نال صدام حسين مئة بالمئة من الأصوات، تحاول الأنظمة الأكثر وحشية غالباً إضفاء الصفة الشرعية على حكمها من خلال انتخابات صورية. من هنا، وجب على الانتخابات لكي تعبر بصدق عن رغبات الشعب، أن تكون مندمجة مع مجتمعات توجد فيها مؤسسات مدنية قوية وناضجة وتوزيع للسلطة. تجربة البحرين تصوّر هذه النقطة: فقد جرت الانتخابات هناك بعد أن اتخذت خطوات لإطلاق سراح السجناء السياسيين، وألغيت السلطات الاعتباطية من الدستور، وتم إصلاح القضاء والسماح لوسائل الإعلام بالعمل بصورة مستقلة. وبالمقابل، ألقت تجربة الجزائر، سنة 1991، الضوء على خطورة إجراء الانتخابات في غياب مجتمع تعدّدي.

ثالثاً، الديمقراطية تحتاج إلى وقت. إن زرع الأفكار وتطوير العملية السياسية والمؤسسات والتقاليد يحتاج إلى الوقت. فقياس العملية الديمقراطية لا يقاس بالأسابيع أو الأشهر بل بالسنين والعقود والأجيال. فكما لاحظت مؤخراً كونداليزا رايس، مستشارة الأمن القومي:  “إستناداً إلى تاريخنا نحن، نعرف في الولايات المتحدة أن علينا أن نكون صبورين ومتواضعين. فالتغيير، حتى عندما يكون المقصود منه الأحسن – كثيراً ما يكون صعباً. والتقدم كثيراً ما يكون بطيئاً”.إن ديمقراطيتنا أبعد من أن تكون مثالية، وهي منفتحة دائماً للتحسين، كما دلت على ذلك التعديلات التي أدخلت على دستورنا وكذلك الخطوات التي اتخذت لمنح الأميركيين من أصول إفريقية والنساء كامل حقوق المواطنة.

رابعاً، الديمقراطية تعتمد على شعب مطّلع ومتعلم. التعليم يمكّن الشعب من التعرف إلى حقوقه وإلى كيفية ممارستها. فالشعوب المتعلمة القادرة على اتخاذ قرارات تستند إلى معلومات تساعد الديمقراطية على التجذّر. لقد حققت البلدان في العالم الإسلامي تقدماً بارزاً في تعزيزها القراءة والكتابة، لكنها قامت بجهود أقل في إيجاد شعوب واسعة الاطلاع والقراءة. يلاحظ المعلقون المسلمون أن الأنظمة التعليمية لا تُعِدّ الطلاب للنجاح في القرن الواحد والعشرين. يُحدد عبد الحميد الأنصاري، عميد كلية الشريعة في جامعة قطر، المشكلة بصورة مباشرة تماماً: “إن قسماً هاماً من خطابنا التعليمي منقطع عن العلوم الحديثة وهو قائم على نظرة ذات بعد أحادي، مما يخلق عقلية مقفلة ومنحى سهلاً باتجاه التعصّب. فهي تزرع مفاهيم خاطئة تتعلق بالنساء وبالأقليات الدينية أو الإثنية؛ وتسيطر عليها أساليب الحفظ غيباً والتكرارية.” التعليم يعني أكثر بكثير من مجردّ الذهاب إلى المدرسة. فالديمقراطيات المزدهرة تتطلب تقاليد المساءلة وليس الحفظ عن ظهر قلب.

خامساً، الوسائل الإعلامية المستقلة والمساءلة أمور ضرورية. للوسائل الإعلامية دور حسّاس تلعبه كعنصر أساسي في المجتمع المدني. تكون هذه الوسائل، في الديمقراطيات، حرة ولا تسيطر عليها الدولة. وهذا يسمح بظهور آراء وأفكار ووجهات نظر متعددة يجري نشرها في ساحة سوق الأفكار. إن أفضل حماية ضد الأفكار التي تنشرها وسائل الإعلام ولا يوافق عليها الناس هو نشر أكبر عدد من وجهات النظر بدلاً من إسكات الأصوات الإعلامية. على وسائل الإعلام المستقلة، في الوقت نفسه، مسؤوليات كما على الحكومات والمواطنين مسؤوليات. فعليها دعم المعايير المهنية والتشديد على تقارير تكون مستندة إلى حقائق. وعليها التثقيف وليس فقط الدعوة للقضايا.

سادساً، النساء عنصر حيوي في الديمقراطية. لا يمكن أن تنجح البلدان إذا حُرم نصف سكّانها من الحقوق الديمقراطية الأساسية. فالحقوق التي تتمتع بها النساء هي عامل حاسم أساسي في الحياة النابضة لأي مجتمع. فالمجتمعات التي يحكمها الرجال والتي تلعب فيها النساء دوراً تابعاً  لدور الرجال هي أيضاً مجتمعات يلعب فيها الرجال دوراً تابعاً لدور رجال آخرين، حيث يُحال مبدأ الجدارة إلى المقاعد الخلفية وتسبقه العلاقات الشخصية والمحسوبية ومحاباة الأقرباء.

سابعاً، الإصلاحات السياسية والاقتصادية تقوي بعضها البعض. يساعد تحديث الاقتصاد القائم على قوى السوق في إدخال عناصر الديمقراطية: حكم القانون، وصنع القرار بشفافية، وحرية تبادل الأفكار. ويصح قول الشيء نفسه عن عناصر الديمقراطية التي بدورها تدعم وتُسرّع النمو الاقتصادي. ولا يحتاج ذلك لأن يكون مساراً متتابعاً كمثل تنمية الاقتصاد التي يتبعها التحرير السياسي. فعندما تسير الحرية السياسية والحرية الاقتصادية يداً بيد، تقوم بتقوية بعضها البعض. وتوفر الديمقراطية للشباب طريقاً للتعبير عن طموحاتهم.  فالديمقراطية هامة بنفس الدرجة إذ أنها  تعزز النمو الاقتصادي بحيث يمكنه توفير الأمل للشباب حين يقدم لهم قطعة من الكعكة الاقتصادية المتنامية.

ثامناً، في حين يمكن تشجيع الديمقراطية من الخارج، لكن الأفضل بناؤها من الداخل. فالديمقراطية عملية يدفعها بالأساس أعضاء المجتمع، أو مواطنوها. وهم فقط يمكنهم تعزيز روح وممارسة التسامح بحيث يتأمن الاحترام لحقوق الأقليات والأفراد. وإذا حاولت الولايات المتحدة أو أي فريق آخر فرض المظاهر الخارجية الديمقراطية على بلد ما، فان النتيجة سوف تكون غير ديمقراطية وغير قابلة للاستدامة. إن الطريقة الوحيدة لتجذّر الديمقراطية هو تركها تنبت في الداخل.

برنامج العمل الديمقراطي وما بعده

ملاحظاتي هذا المساء مُكَرسّة بكل وضوح لمسألة الديمقراطية.  غير أن الديمقراطية يمكن أن تكون مظهراً واحداً  فقط لسياسة الولايات المتحدة الخارجية.  ففي الوقت الذي تقوم فيه قوى الديمقراطية بعمل سحرها على المدى البعيد، نبقى بحاجة إلى التعامل مع قضايا هامة أخرى تصل إلى مكاتبنا كل يوم.

نحتاج إلى مواصلة العمل لأجل وضع حدّ للنزاعات الملتهبة بين إسرائيل والعالم العربي عن طريق تحقيق الرؤيا البعيدة للرئيس بوش حول دولتين ديمقراطيتين، إسرائيل وفلسطين، تعيشان جنباً إلى جنب بسلام وأمن خلال أقل من ثلاث سنوات. كذلك، سوف تواصل الولايات المتحدة العمل للتأكد من أن العراق قد تم تجريده من سلاحه وأن نزاهة الأمم المتحدة لم تمس. وسوف نواصل أيضاً مساعدة أفغانستان والشعب الأفغاني بعد أن تم تحرير بلدهم. ونحن على استعداد لمساعدة الهند وباكستان – يعيش ضمن حدودهما 300 مليون مسلم- على إقامة علاقات طبيعية أكثر بينهما بما في ذلك إيجاد حل مقبول من الطرفين لقضية كشمير.

لا تقع مهمة تعزيز الديمقراطية في العالم الإسلامي على عاتق الولايات المتحدة وحدها. سوف نعمل سوية مع حلفاء ديمقراطيين كأوروبا واليابان. وزيادة على ما نفعله كحكومات، هناك دور حاسم قد تلعبه المنظمات غير الحكومية، والمؤسسات والأفراد. وهناك دور هام مساوٍ سوف تلعبه مجتمعات الأعمال الأميركية التي يمكن أن يكون لها إثر إيجابي هائل من خلال استثماراتها، وممارساتها في التوظيف، ودعمها للتعليم والتدريب.

كما أننا لا ننطلق من العدم. فحكومة الولايات المتحدة تتعامل بعمق وبعدة طرق في مساعدة العديد من البلدان ذات الأكثرية المسلمة في تطوير مؤسساتها الديمقراطية وبنيتها الاجتماعية التحتية الضرورية لكي تتمكن الديمقراطية من التجذر. لقد شجعنا طيلة سنوات، المبادلات التعليمية والثقافية مع شعوب ومؤسسات في العالم الإسلامي لأجل تعزيز مكوّنات المجتمع المدني والحكومات التي تشارك شعوبها. ونساعد الطلاب على تطوير أدوار جديدة لهم كمواطنين من خلال برامج تدريب المدرسّين وكذلك عبر عملنا الخاص بتعليم اللغة الإنجليزية. وتعمل الولايات المتحدة أيضاً بقوة لتشجيع الازدهار الاقتصادي كمحّرك للتغيير الديمقراطي. فالعضوية في منظمة التجارة العالمية تشجع التحرر الاقتصادي والسياسي. والولايات المتحدة مستعدة لتشجيع عملية الاندماج في هذا المجال وهي تدرس إمكانيات عقد اتفاقات للتجارة الحرة كتلك التي أنجزتها مع الأردن والتي تبحثها مع المغرب.

وتعمل الولايات المتحدة أيضاً عبر تشكيلة واسعة من البرامج – بدءاً من برنامج الزوار الدوليين، وصولاً إلى تقديم المنح لمؤسسات التعليم المحلية – بهدف تشجيع التطوير إنتاج الأسس لبناء ديمقراطية تشمل صحافة محترفة متوازنة ومتحررة من رقابة الدولة، ومؤسسات غير حكومية نشطة، وقضاء مستقل. وتعمل المؤسسات الأميركية الممولة من الحكومة مثل المعهد الديمقراطي القومي والمعهد الجمهوري الدولي في العديد من البلدان ذات الأكثرية المسلمة للمساعدة في تعزيز المؤسسات الديمقراطية. لقد خدم الأميركيون كمراقبين في العالم المتحّول نحو الديمقراطية – بما في ذلك العالم الإسلامي – للمساعدة في تأمين انتخابات حرة ونزيهة. وتمول الولايات المتحدة أيضاً قسماً هاماً من نشاطات منظمة الأمن والتعاون لأوروبا في بلدان آسيا الوسطى والقوقاز المسلمة. وتعمل منظمة الأمن والتعاون لأوروبا، بدءاً من تطوير قواعد انتخابية نموذجية إلى تعزيز دور مراقبي حقوق الإنسان وصولاً إلى التدريب الاحترافي للوسائل الإعلامية المستقلة، وذلك لدعم الديمقراطية في تلك البلدان التي استقلت حديثاً.

طريق الديمقراطية طويل، ويعود إلى الشعوب المعنية اجتيازه بأنفسهم. لقد مشينا في هذا الطريق لمدة 220 سنة خلت ولم نصل بعد إلى هدفنا الأخير الذي هو الديمقراطية المثالية.

إلا أن كل خطوة نخطوها تأتي بفوائد – للمواطنين، وللبلدان، وللمناطق، وللعالم. غير أنه لا يزال العديد من المسلمين يسيرون في المؤخرة. يجب أن ينتهي هذا. نحن ندرك أن الولايات المتحدة قادرة ويتوجب عليها أن تفعل أكثر؛ إن تعزيز الديمقراطية، بما في ذلك داخل العالم الإسلامي، هو أولوية بالنسبة للرئيس بوش ولوزير الخارجية باول. نحن الآن بصدد دراسة ما نقوم بعمله حالياً لنتمكن من المساعدة في هذه العملية بطريقة أفضل وأكثر فعالية. وسوف نطلق خلال الأسابيع والأشهر القادمة برامج جديدة مثل المبادرة الأميركية – الشرق أوسطية الهادفة إلى التعاون مع الحكومات والشعوب في العالم الإسلامي.

يبقى أن قرار التحرك باتجاه مسار الديمقراطية يعود، في نهاية المطاف، إلى شعوب العالم الإسلامي. إن من مصلحتهم ومصلحتنا أن يقوموا بذلك. وهذه هي أيضاً الطريقة الوحيدة التي تستطيع فيها هذه المجتمعات، شأنها شأن المجتمعات الأخرى في العالم، الاستفادة على أحسن وجه وإلى أبعد حد من الطاقات الكامنة لدى شعوبها، وتحقيق مستقبل لها يتميز بمزيد من الحرية، ومزيد من السلام، ومزيد من الازدهار.

Continue Reading

أمريكا

أمريكا : نص مبادرة باول للشرق الأوسط التي أعلنها في واشنطن يوم 12/12/2002

Published

on

أعلن وزير الخارجية الأمريكي كولن باول عن مبادرة أمريكية تهدف إلى تعزيز الديمقراطية والتعليم ودور المجتمع المدني في العالم العربي، على حد قوله، وقال باول في خطاب ألقاه في مؤسسة التراث بواشنطن الخميس 12-12-2002: إن المبادرة التي أطلق عليها اسم “مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط.. بناء الأمل للسنين القادمة” تسعى لتشجيع المشاركة الشعبية في العملية السياسية ومساعدة المؤسسات التعليمية والتربوية في سائر أرجاء الشرق الأوسط ومكافحة الأمية.

وأضاف أن المبادرة تهدف أيضا إلى مؤازرة حقوق المرأة ومساعدة القطاعين العام والخاص في العالم العربي على تحقيق الإصلاحات الاقتصادية والاستثمار، فضلا عن دفع عجلة التفاهم والشراكة بين شعب الولايات المتحدة والشعوب العربية.

وفيما يلي النص الكامل لخطاب وزير الخارجية الأمريكي كما أورده موقع الوزارة على الإنترنت:

“شكرا جزيلا يا أيد لتلك المقدمة الحارة. شكرا لك ولمؤسسة التراث لدعوتي إلى هنا لكي أناقش الآمال والتطلعات التي نتقاسمها مع شعوب الشرق الأوسط.

وأود أيضا أن أرحب بضيوفنا الممتازين الآخرين من السلك الدبلوماسي، والعاملين في الكونجرس، والمنظمات غير الحكومية، والقطاع الخاص. شكرا لكم لتخصيصكم الوقت للمجيء اليوم.

وإنه لمن المناسب أن نجتمع في مؤسسة التراث، ذلك أن رؤيا المؤسسة ببناء وطن تزدهر فيه الحرية، والفرص، والرخاء، والمجتمع المدني هي نفس الرؤيا التي نتقاسمها مع شعوب الشرق الأوسط لبلدانها.

الشرق الأوسط هو منطقة شاسعة فائقة الأهمية للشعب الأمريكي.

فالملايين منا يتعبدون في كنائس، ومساجد، ومعابد يهودية، مبشرين بالديانات العظيمة الثلاثة التي ولدت في الأراضي الممتدة بين البحر الأبيض المتوسط والخليج الفارسي.

ولغتنا وتقاليدنا حافلة بإشارات إلى بيت المقدس وبيت لحم ومكة المكرمة.

ودليل الهاتف لدينا يحمل تلك الأسماء أمثال: موسافي، ليفي، وشاهين… التي تتحدث عن جذور عائلات عريقة في الشرق الأوسط.

ومزارعونا يزرعون القمح، وعمالنا يصنعون طائرات وأجهزة كمبيوتر، ومنتجات أخرى عديدة نبيعها لدول المنطقة، بينما الأموال تتدفق من مستثمرين في الشرق الأوسط إلى بلدنا.

ومن المفجع أن آلافا من رجالنا ونسائنا ماتوا في 11 أيلول / سبتمبر، 2001، على أيدي إرهابيين ولدوا وأصبحوا راديكاليين هناك.

واعترافا منا بأهمية المنطقة، كرّسنا دمنا ومالنا لمساعدة شعوب وحكومات الشرق الأوسط على مدى نصف قرن من الزمن وأكثر.

والحقيقة أن سيرتي في الخدمة العامة صاغتها الأحداث هناك، فقد كان لي امتياز أن أكون رئيس هيئة الأركان المشتركة عندما قادت الولايات المتحدة التحالف الدولي، بما فيه عدد كبير من الدول العربية، الذي أخرج الغزاة العراقيين من الكويت. واليوم، كوزير للخارجية، يتطلب الشرق الأوسط قدرا عظيما من اهتمامي.

وقد شددت سياستنا الشرق أوسطية، كحكومة، على كسب الحرب ضد الإرهاب، وتجريد العراق من الأسلحة، وإنهاء النزاع بين إسرائيل والفلسطينيين.

والحرب على الإرهاب لا تقتصر على الشرق الأوسط، طبعا، غير أن أصدقاءنا هناك لهم مصلحة مهمة بها بوجه خاص. فقد عانى كثيرون من بلاء الإرهاب مباشرة. ويسرني أن أصدقاءنا سارعوا لمواجهة التحدي بأن منحوا حقوق إنشاء قواعد لعملية [الحرية المستديمة] في أفغانستان، ومبادلتهم المعلومات الاستخباراتية، وتلك المتعلقة بتنفيذ القانون، واعتقالهم إرهابيين مشتبها بهم، وفرضهم قيودا على التمويل الإرهابي.

وعلينا أيضا، مع دول الشرق الأوسط، ومع أصدقائنا وحلفائنا، ومجتمع الدول، أن نعالج أيضا الخطر الجسيم والمتنامي الذي يشكله نظام صدام حسين العراقي. وقد أعطى مجلس الأمن الدولي، بموافقته الإجماعية على القرار 1441، العراق فرصة أخيرة للوفاء بالتزاماته. فالنظام العراقي يمكنه إما أن ينزع أسلحته، أو أنه سيجرّد منها. الخيار خيارهم، لكنه لا يمكن أن يؤجل بعد الآن.

ولدينا أيضا اهتمام قومي عميق وثابت بإنهاء النزاع الإسرائيلي الفلسطيني. ونحن نعمل مع أصدقائنا في المنطقة ومع المجتمع الدولي، لتحقيق سلام دائم يرتكز على رؤيا الرئيس بوش لدولتين تعيشان جنبا إلى جنب، في سلام وأمن. وهذا السلام سيتطلب من الفلسطينيين قيادة جديدة ومختلفة، ومؤسسات جديدة، ونهاية للإرهاب والعنف. وإذ يحقق الفلسطينيون تقدما في هذا الاتجاه، سيكون مطلوبا من إسرائيل أيضا أن تجري خيارات صعبة، بما فيها إنهاء جميع أوجه النشاط المتعلق بالاستيطان، بصورة تتمشى مع تقرير ميتشل.

وكما قال الرئيس بوش: إنه بجهد مكثف من قبل الجميع، سيكون إيجاد دولة فلسطينية قابلة للحياة أمرا ممكنا في عام 2005.

إن هدفنا النهائي هو تسوية عادلة وشاملة عربية إسرائيلية، تكون فيها جميع شعوب المنطقة مقبولة كجيران، تعيش في سلام وأمن.

وقد كانت هذه التحديات ولا تزال في مقدمة سياسة الولايات المتحدة الشرق أوسطية، ولسبب وجيه. فكل منها يؤثر تأثيرا عميقا على مصالحنا القومية، وعلى مصالح الشعوب التي تعتبر الشرق الأوسط وطنا لها. ونحن ما زلنا ملتزمين التزاما عميقا بمواجهة كل واحد من هذه التحديات بهمة وعزم وتصميم.

وفي الوقت نفسه أصبح واضحا بصورة متزايدة أنه يجب علينا أن نوسع تعاطينا مع المنطقة إذا كان لنا أن نحقق نجاحا. وعلينا خصوصا أن نوجه اهتماما متواصلا ونشيطا إلى الإصلاح الاقتصادي، والسياسي، والتعليمي. وعلينا أن نعمل مع شعوب وحكومات لسد الفجوة بين التوقع والواقع، التي دعتها الملكة رانيا ملكة الأردن بصورة بليغة: [فجوة الأمل].

وقد أوجد انتشار الديمقراطية والأسواق الحرة، التي ألهبتها عجائب الثورة التكنولوجية، قوة محركة تستطيع أن تولد ازدهارا ورفاها إنسانيا على نطاق لم يسبق له مثيل. إلا أن هذه الثورة خلفت الشرق الأوسط وراءها إلى حد كبير.

لقد قدمت دول الشرق الأوسط على مدى التاريخ، مساهمات لا تقدر بثمن للعلوم والفنون. لكن اليوم، توجد شعوب كثيرة هناك تفتقر إلى ذات الحرية السياسية والاقتصادية، وفاعلية المرأة، والتعليم الحديث.. وكل ذلك تحتاج إليه لكي تزدهر في القرن الـ 21.

وكما جاء في تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2002، الذي وضعه أساتذة عرب بارزون وأصدرته الأمم المتحدة، فإن سكان المنطقة يواجهون خيارا أساسيا بين كسل وجمود… (و) نهضة عربية تبني مستقبلا زاهرا لجميع العرب.

هذه ليست كلماتي. إنها كلمات خبراء عرب نظروا بعمق إلى القضايا، وهي تستند إلى الحقائق الصارخة.

إن حوالي 14 مليون راشد عربي يفتقرون إلى وظائف هم بحاجة إليها لوضع طعام على موائدهم، وسقوف فوق رؤوسهم، وأمل في قلوبهم. وسيدخل زهاء 50 مليون عربي آخر من الشبان والشابات سوق الوظائف المزدحم أصلا خلال الأعوام الثمانية القادمة.

إلا أن الاقتصاديات لا تولد ما يكفي من الوظائف، فالنمو ضعيف، والناتج المحلي الإجمالي لـ 260 مليون عربي هو أقل مما ينتجه أربعون مليون أسباني، كما أنه آخذ في التدهور حتى أكثر من ذلك. أضيفوا إلى ذلك إنتاج الـ 67 مليون إيراني، وتبقى النتيجة مجرد ثلثي الناتج الإيطالي.

داخليا: كثير من الاقتصاديات تخنقها التنظيمات والمحسوبيات، وتنغلق في وجه مغامرات في التجارة والأعمال، وفي وجه استثمار وتجارة.

ودول الشرق الأوسط غائبة أيضا إلى حد كبير عن الأسواق العالمية. إنها بالكاد تولّد 1 بالمائة من صادرات العالم غير النفطية. وهناك عشر دول شرق أوسطية فقط تنتمي إلى منظمة التجارة العالمية. وكما حذر الرئيس المصري حسني مبارك: [إعطاء دعم للصادرات هو قضية حياة أو موت].

إن العجز في الفرص الاقتصادية هو تذكرة إلى اليأس. وهو، إضافة إلى الأنظمة السياسية المتصلبة، خميرة خطرة حقا. وإلى جانب اقتصاديات أكثر تحررا، يحتاج كثير من شعوب الشرق الأوسط إلى صوت سياسي أقوى.

إننا نرفض الفكرة المتعالية القائلة بأن الحرية لن تنمو في الشرق الأوسط، أو أن هناك أي منطقة في العالم لا تستطيع أن تحتمل الديمقراطية.

وقد جسد الرئيس بوش تطلعات الشعوب في كل مكان عندما قال في خطابه في وست بوينت: [إنه عندما يتعلق الأمر بالحقوق والحاجات المشتركة للرجال والنساء، ليس هناك تصادم حضارات. فمتطلبات الحرية تنطبق كليا على أفريقيا وأمريكا اللاتينية وكامل العالم الإسلامي].

وإذا أعطيت الشعوب خيارا بين الطغيان والحرية، فإنها تختار الحرية. علينا فقط أن ننظر إلى شوارع كابول، المزدحمة بأشخاص يحتفلون بانتهاء حكم طالبان في العام الماضي.

وهناك بصيص أمل في الشرق الأوسط أيضا. فدول أمثال البحرين، وقطر، والمغرب قامت بإصلاحات سياسية جريئة. والمنظمات المدنية ناشطة بصورة متزايدة في كثير من الدول العربية، تعمل في قضايا تتعلق بالخبز والزبد، مثل تأمين بطاقات هوية للنساء توجد حاجة ماسة إليها.

ونحن نرى أيضا ثورة عارمة في وسائل الإعلام، من محطات التلفزيون الفضائية إلى مجلات أسبوعية صغيرة الحجم. وعلى الرغم من أن البعض منها لم يرق بعد إلى مستوى مسؤولياته للقيام بتغطية مسؤولة وتقديم معلومات واقعية، فإنه يجعل المعلومات في متناول أعداد من السكان أكثر من أي وقت مضى.

ومع ذلك، ما زالت تحكم كثيرا من الشرق أوسطيين أنظمة سياسة مغلقة. وكثير من الحكومات تكافح مؤسسات المجتمع المدني باعتبارها تهديدا، بدلا من أن ترحب بها كأساس لمجتمع حر، ديناميكي، ومبشر بالأمل. ناهيك عن أن لغة الكراهية والاستبعاد والتحريض على العنف لا تزال هي اللغة السائدة.

وكما قال الملك محمد عاهل المغرب لبرلمان بلده قبل سنتين: [إنه لتحقيق التنمية، والديمقراطية، والتحديث، من الضروري تحسين وتقوية الأحزاب السياسية، والنقابات العمالية، والجمعيات، ووسائل الإعلام وتوسيع مدى المشاركة].

وأخيرا: إن عددا كبيرا من أطفال المنطقة يفتقر إلى المعرفة ليستفيد من عالم من الحرية الاقتصادية والسياسية. فعشرة ملايين طالب في سن الدراسة هم إما في المنازل، أو يعملون، أو في الشوارع بدلا من أن يكونوا في صفوفهم المدرسية. وحوالي 65 مليون من آبائهم لا يحسنون القراءة أو الكتابة، دع عنك مساعدتهم في دروسهم. وبالكاد يستطيع شخص واحد من كل مائة الوصول إلى كمبيوتر. ومن أولئك: النصف فقط يستطيع الوصول إلى العالم الأوسع عبر الإنترنت.

وحتى عندما يذهب الأطفال فعلا إلى المدرسة، غالبا ما يتعذر عليهم تعلم المهارات التي يحتاجون إليها لكي ينجحوا في القرن الـ 21. [التعليم] غالبا ما يعني الاستظهار من غير فهم بدلا من التفكير الخلاق الحيوي الضروري للنجاح في عالمنا المتصف بالعولمة.

وقد وجد واضعو تقرير التنمية العربية أن [التعليم أخذ يفقد دوره الهام كوسيلة لتحقيق تنمية اجتماعية في الدول العربية، متحولا عوضا عن ذلك إلى وسيلة لاستدامة الفقر والطبقات الاجتماعية]. وتلك إدانة دامغة ودعوة للعمل.

وهناك موضوع دائم يبرز من خلال هذه التحديات، ألا وهو تهميش المرأة في كثير من دول الشرق الأوسط. فأكثر من نصف نساء العالم العربي: أميات. وهن يعانين أكثر من جراء البطالة والافتقار إلى فرص اقتصادية. وتشكل النساء أيضا نسبة من أعضاء البرلمانات في العالم العربي أصغر منها في أي منطقة أخرى في العالم.

وإلى أن تطلق دول الشرق الأوسط العنان لقدرات نسائهن، لن تبني مستقبلا من الأمل.

إن أي معالجة للشرق الأوسط تتجاهل تخلفه السياسي، والاقتصادي، والتعليمي، ستكون مبنية على رمال.

سيداتي، سادتي: حان الوقت لوضع أساس متين من الأمل. إنني أعلن اليوم مبادرة تضع الولايات المتحدة بثبات في جانب تغيير، وإصلاح، ومستقبل حديث للشرق الأوسط.

خلال زيارة الرئيس مبارك لواشنطن في آذار / مارس الماضي، طلب مني الرئيس بوش أن أتولى رئاسة جهد جديد للحكومة الأمريكية لدعم شعوب وحكومات الشرق الأوسط في جهودها لمواجهة هذه التحديات الإنسانية الملحة.

ويسرني أن أعلن النتائج الأولية لعملنا: مجموعة مبتكرة من البرامج وإطار لتعاون مستقبلي، نسميها: مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط.

إن مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط هي جسر بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط، بين حكومتينا وشعبينا، يسد فجوة الأمل بالطاقة، والأفكار، والأموال.

ومبادرة شراكتنا هي استمرار، وتصعيد لالتزامنا القائم منذ زمن طويل بالعمل مع جميع شعوب الشرق الأوسط لتحسين حياتها اليومية ومواجهة المستقبل بأمل.

وكما أن قرارنا إعادة الانتساب إلى اليونسكو هو رمز على التزامنا بتعزيز حقوق الإنسان والتسامح والتعلم، فإن هذه المبادرة هي دليل قوي على التزامنا بكرامة الإنسان في الشرق الأوسط.

إننا سنخصص بصورة أولية مبلغ 29 مليون دولار لجعل هذه المبادرة تنطلق بقوة. وسنعمل مع الكونجرس للحصول على تمويل جوهري إضافي للعام القادم. وهذه الأموال ستكون زيادة على الأكثر من مبلغ الألف مليون دولار الذي نقدمه كمساعدة اقتصادية للعالم العربي كل عام.

وتستند مبادرتنا إلى ثلاث ركائز:

إننا سنشترك مع مجموعات من القطاعين الخاص والعام لسد فجوات الوظائف بإصلاح اقتصادي، واستثمار للأعمال، وتنمية القطاع الخاص.

وسنشترك مع قادة المجتمع لسد فجوة الحرية بمشاريع لتقوية المجتمع المدني، وتوسيع المشاركة السياسية، ورفع أصوات النساء.

وسنعمل مع المربين لسد فجوة المعرفة بمدارس أفضل ومزيد من الفرص للتعليم العالي.

سيداتي، سادتي: الأمل يبدأ براتب عمل. وذلك يتطلب اقتصادا مليئا بالحيوية والنشاط. وعن طريق مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط، سنعمل مع حكومات لإنشاء أحكام وأنظمة اقتصادية ستجتذب الاستثمار الأجنبي وتتيح للقطاع الخاص أن يزدهر.

وسنساعد شركات الأعمال الصغيرة والمتوسطة على تحقيق وصول إلى الرأسمال الذي هو قوام الحياة. وكخطوة أولى، يسرني أن أعلن أننا سننشئ صناديق أموال للمشاريع في الشرق الأوسط، على غرار المشاريع البولندية الأمريكية الناجحة، للبدء في الاستثمار فورا في أعمال جديدة واعدة.

وسنساعد أيضا مزيدا من الدول على المشاركة في سخاء الاقتصاد العالمي. وذلك يعني تقديم مساعدة فنية إلى الدول الأعضاء الطموحة في منظمة التجارة العالمية كالمملكة العربية السعودية، والجزائر، ولبنان، واليمن، لتلبية معايير منظمة التجارة العالمية.

وهو يعني البناء على اتفاقنا الناجح للتجارة الحرة مع الأردن بالبدء بمفاوضات اتفاق تجارة حرة مع المغرب. وهو يعني الاستمرار في العمل مع دول كمصر والبحرين لاستكشاف طرق لتعزيز علاقتنا الثنائية من التجارة الاقتصادية، بما في ذلك عبر اتفاقات تجارة حرة ممكنة.

وتتطلب الاقتصاديات المنفتحة أنظمة سياسية منفتحة. وعليه فإن الركيزة الثانية لمبادرتنا من الشراكة ستدعم المواطنين عبر المنطقة الذين يطالبون بأصواتهم السياسية.

وقد بدأنا المشروع الاختباري الأول في هذا المجال الشهر الماضي، عندما أحضرنا وفدا من 55 زعيمة سياسية عربية إلى الولايات المتحدة لمشاهدة انتخاباتنا النصفية.

وقد عقدت اجتماعا عظيما جدا مع هذه المجموعة الرائعة، وكان التزامها وطاقتها مصدر إلهام لي. وقد وجهت إلي أسئلة صعبة، وناقشنا القضايا كما يفعل الناس في مجتمعات حرة.

وقد تحدث أولئك النسوة إلي ببلاغة عن قلقهن بالنسبة إلى المستقبل وأحلامهن بعالم حيث يمكن لأطفالهن أن يعيشوا في سلام. وحدثنني عن أملهن بأن يرين نهاية للنزاعات التي تشل منطقتهن. وتحدثن إلي كيف أنهن يردن أن يتحكمن بحياتهن ومصائرهن. وطلبن أن يعرفن المزيد عن الديمقراطية الأمريكية، وكيف يجعلن أصواتهن أكثر فعالية.

وتتطلب زيادة المشاركة السياسية أيضا تقوية المؤسسات المدنية التي تحمي حقوق الأفراد وتوفر فرصا للمشاركة. وعن طريق مبادرتنا للمشاركة سندعم هذه الجهود.

ولكي تعمل الاقتصاديات الحرة والأنظمة السياسية بنجاح فإنها تحتاج إلى مواطنين متعلمين، وعليه ستركز الركيزة الثالثة لمبادرة التعاون بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط على إصلاح تعليمي.

وستشدد برامجنا على تعليم الفتيات. فعندما تتحسن نسبة التعليم بين الفتيات، تتحسن كذلك جميع مؤشرات التنمية المهمة الأخرى في أي بلد. ولقد أصاب شاعر النيل حافظ إبراهيم عندما قال:

الأم مدرسة إذا أعددتها * أعددت شعبا طيب الأعراق

وسنوفر منحا دراسية لإبقاء الفتيات في المدارس وتوسيع التعليم للفتيات والنساء. وبصورة أوسع، سنعمل مع الأبوين والمربين لتعزيز الإشراف المحلي وإشراف الأبوين على الأنظمة المدرسية.

وفي كل واحد من هذه المجالات الثلاثة، نحن ملتزمون بمشاركة أصيلة في اتجاهين: مشاركة مع المواطنين ودول المنطقة، ومع الكونجرس، وحتى مع جهات مانحة أخرى بينما ننفذ هذه الأجندة.

إن هذه المبادرة هي من المشاريع الأكثر تحديا التي درسناها نحن وشركاؤنا في المنطقة. وعلينا أن نكون واقعيين بشأن العقبات القائمة على الطريق أمامنا، وبشأن الوقت الذي ستستغرقه لرؤية تغير حقيقي يتجذر، وبشأن الدور المحدود الذي تستطيع جهات خارجية أن تقوم به. وعلينا أن ندرك بأن مصلحة الشرق الأوسط الحقيقية يجب أن تدفع بهذه المبادرة إلى الأمام، وأن المشاركة الشرق أوسطية هي وحدها التي ستحافظ عليها. لكن علينا أيضا ألا نقنع بتوقعات منخفضة. فكما يظهر الاختمار في المنطقة، فإن شعوب الشرق الأوسط نفسها تتملكها هذه القضايا.

ونحن لا نبدأ من لا شيء. فإننا نعمل الآن بنجاح فعلا مع مجموعة واسعة من الشركاء. مثلا: أعلنا في الشهر الماضي إنشاء “مؤسسة ليد” التي تشترك فيها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية مع البنك الدولي والقطاع الخاص المصري لدعم إقراض المشاريع الصغيرة في مصر.

إضافة إلى ذلك: نشترك فعلا، عن طريق شراكتنا من أجل التعلم، مع دول المنطقة في تدريب المعلمين، وتعليم اللغة الإنكليزية، وبرامج أخرى لتقوية أنظمتها التعليمية.

والحقيقة أن جزءا مهما من عملنا سيتناول مراجعة برامجنا القائمة للاستفادة منها والتأكد من أن برامجنا الحالية تلامس أكبر عدد ممكن من الأرواح.

كما أننا لا ندافع عن الأسلوب القائل إن [حجما واحدا يلائم الجميع]، فالمنطقة كثيرة التنوع بالنسبة إلى ذلك الأمر. لكننا سنكون على الأرض نصغى ونعمل للتأكد من أن برامجنا مفصلة لتلائم حاجات الشعوب حيثما كانت تعيش.

وإننا بمبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط نعترف بأن الأمل المبني على فرصة اقتصادية، وسياسية، وتعليمية هو حاسم لنجاح جميع جهودنا، وأن نجاح هذه الجهود الأخرى هو، بدوره، ضروري لإيجاد أمل.

لقد شاهدت خلال جولاتي في الشرق الأوسط، في الحياة العامة والخاصة، عن كثب: طاقة، وإبداعا، وتفاني الأبوين وهما يحاولان بناء مستقبل أفضل لأطفالهما. لكنني شاهدت أيضا إحباطهما عندما كان التقدم بطيئا جدا. علينا أن نسير قدما بخطا أسرع. ولسوف نسير بخطا أسرع.

إننا عبر مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط، نضيف أملا إلى أجندة الولايات المتحدة والشرق الأوسط. وإننا سنستخدم طاقتنا، وقدراتنا، ومثاليتنا لجلب الأمل إلى جميع عباد الله الذين يعتبرون الشرق الأوسط وطنا لهم.

شكرا لكم”.

Continue Reading
Advertisement
MEDIUM RECTANGLE